ضعف..!

ضعف..!

ضعف..! (1)

اتصال تليفوني

كانت الساعة الواحدة ظهرًا عندما وصل جورج إلى الفندق، فقرّر أن يصعد إلى غرفته ليأخذ حمّامًا سريعًا، ويغيّر ملابسه، ثمّ ينزل مرة أخرى إلى مطعم الفندق لتناول الغداء. ولمـّا همّ بالنزول، رنّ هاتفه، فإذا كاترينا تتصّل عليه..

آلو.. مرحبا حبيبتي. كيف هي أخبارك يا جورج، وكيف هي بلاد العجائب؟ رائعة، وأنا سعيد جدًّا هنا، وقد أنجزت عملي، وبقي لي يومين سأتفرغ فيهما للتعرّف أكثر على هذه المدينة الجميلة. رائع، وماذا عن تساؤلات الطبيب؟ هههه، أحيانًا أشعر بأن توم على حق، عندما قال إذا اقتربت من الأديان ستزهد فيها جميعًا، وإن كنت أظن الأمور بدأت تتضح لي إلى حد ما. الكاثوليكية ستسعدك كلما اقتربت منها أكثر، وروح القدس ستسعدك. دعي عنك هذا، فمايكل المسيحي المتدين هو الذي يحضر لي فتيات المتعة، كلهم سواء مايكل وكاخ وتوم، لم أعد أصدق أحدًا منهم. وجود نموذج سيء لا يعني خطأ الفكرة الأصلية، بل ربما يكون إثبات أن الأصل عدم السوء، فلئن وجد نموذج سيء فهناك العشرات من النماذج الجيدة! صدقتِ، المهم ما أخبار أبنائنا مايكل وسالي؟ هم بخير حال، كلنا مشتاقون أن نراك قريبًا. وأنا أيضًا مشتاق لكم، وأن أراكم قريبًا.

أورميلا الفاتنة

في مطعم الفندق، كان الغداء بوفيهًا مفتوحًا فيه كلّ ما لذّ وطاب، وكان المطعم مزدحما بالسيّاح من مختلف بلاد العالم. جلس جورج على طاولة صغيرة جانبيّة يتناول غداءه لوحده، فوقعت عينيه على فتاة هنديّة فاتنة الجمال، تبدو في بداية العشرينات، كانت ذات شعر أسود غزير، وعينان مكحولتان، وثغر مشرق مبتسم. كانت تنظر إلى السياح الذين يلاحقونها بأعينهم، تارة تبادلهم الابتسامة، وتارة تتمنّع بشيء من الفتنة والدلال. لا يدري لماذا شعر بأنه معجب بجمالها وبدلالها، كرر النظر إليها، ثم قرر أن يتشاغل عنها بأكله وتفكيره في الأعمال التي يجب أن ينجزها على الإنترنت، ولم ينتبه إلا وتلك الشابة الفاتنة تباغته بالجلوس على طاولته..

اسمي أورميلا، أنا من دلهي، ومعنى اسمي: الفاتنة أو الساحرة.. أشفقت عليك لما رأيتك تأكلني بنظراتك وأنت جالس لوحدك، فهل تريد أن أخفف عنك وحدتك؟

رفع جورج بصره إليها، كانت شبه عارية، بطنها مكشوف بالكامل، وترتدي تنورة قصيرة جدًّا لا تكاد تغطّي شيئًا، وجهها كأنه فلقة من القمر، وشعرها حرير مموج، وابتسامتها مشرقة، ولا يدري لماذا سعد جدًّا لما جاءته وجلست على طاولته رغم تمنعها عن غيره..

إعراض وإباء

اسمي جورج، قادم من بريطانيا، وأشكرك على مشاعرك، ثم سكت يغالب نفسه ويريد أن يحسم صراعه؛ فهو يتمنى أن يجلس معها لكن واضح أن الجلسة معها ستستدعي أمورًا أخرى.. آسف لكني مشغول جدًّا، وهذه أول مرة منذ وصولي الهند أجلس فيها وحدي. جميل تواضعك ولبسك وملامحك، هل تود أن نستمتع سويًّا؟ وجميل لطفك، وأنا استمتع بالحديث معك الآن لكني مشغول بعد قليل. عذرًا .. تبدو ساذجًا على سجيتك، أنا لدي شهادة خلو من الإيدز.

مدت يدها ووضعتها على يده وضغطت عليها، فشعر كأنما كهرباء سرت إلى قلبه، لكنه غالب قلبه ونفسه وسحب يده بهدوء.

فهمت.. شكرًا شكرًا، أنا متزوج. وهل زوجتك معك هنا في الهند؟! لا، هي في بريطانيا. أكثر من يأتي من أوربا وأمريكا بمختلف أديانهم متزوجون، ولكنهم يحبون الحياة والمتعة هنا... فالسحر الهندي مختلف. أشكرك.. أنت ساحرة فعلًا، ولكني أشكرك. أنت غريب ومعقد، ولأول مرة يمر علي مثلك في حياتي، هذه أول مرة أعرض نفسي على رجل ويردني..

نهضت أورميلا مباشرة، فتمتم جورج في نفسه، عجيب.. معقد من لا يخون زوجته ومن يحترم مبادئه، هههه ربّما.. هذه الحياة ترينا كل يوم عجائبًا لا نستطيع تفسيرها، أو ربما نفسرها بطريقتنا، لو كان كاخ مكاني لسعد بأفضل ليلة مع أجمل امرأة!!

ضعف..! (2)

حيرة وتوتر وغليان

عندما أنهى جورج غدائه نظر في ساعته، فإذا هي الرابعة والنصف بتوقيت الهند، فحسبها بتوقيت لندن فوجدها الحادية عشر صباحًا. تذكر كاترينا اتصلت به قبل أربع ساعات، أي الساعة السابعة صباحًا، وليس عادة كاترينا الاستيقاظ مبكرًا هكذا! صعد لغرفته، وتناول حاسبه لإنهاء مجموعة من أعماله، وتفقد بريده الإلكتروني، وصفحته على الفيس بوك.. أرسل لكاخ يبشره بأنه أتم العقود مع الشركتين، ثم استعرض الرسائل الواردة، ثم دخل صفحته على الفيس بوك فهو لم يرها منذ ثلاثة أيام، فوجد عددًا كبيرًا من المقالات والصور والروابط الجديدة من أصدقائه، ووجد أن الطبيب توم قد أرسل له طلب صداقة، فأضافه ثم دخل صفحته، فوجده قد أضاف مجموعة صور جديدة، ففتحها وكانت المفاجأة أنها صوره هو وكاترينا معًا! ووجد لهما صورًا وهما يأكلان ويضحكان، وقد كتب تحتها مع كاترينا، ركز على تاريخ الإضافة فوجد أنها أضيفت الساعة السادسة بتوقيت لندن، كان التوقيت مكتوبًا على بعض الصور الساعة 5:25، ونفس تاريخ اليوم 15/7.. تملّكته الحيرة، اتصال كاترينا أول الصباح الباكر، وقد كانت مع توم حتى الساعة الخامسة والنصف، هذا يعني أنها لم تنم بعد! غلى الدم في عروقه، فرفع هاتفه واتصل على كاترينا، فوجد هاتفها مغلقًا، فاتصل على توم، فرد عليه بصوت متعب:

مرحبًا جورج، أخبرتني كاترينا بأنك بدأت تزهد في كل الأديان! ومتى أخبرتك؟!! لما اتصلت عليك كنا سويًا، ثم أوصلتها إلى المنزل، أهنئك بها فهي رائعة. وماذا كنتما تفعلان؟ كنا في حفل الكنيسة، ألم أقل لك أني أجري أبحاثي على المتدينين!

رغبة في الانتقام

أنهى جورج المكالمة، وارتمى على فراشه مندهشًا من هذه الوقاحة.. ولم يعِ بنفسه إلا وهو في الاستقبال يبحث عن الفتاة أورميلا، فلم يجدها، سأل موظف الاستقبال عنها، فابتسم وأخبره أنّ الطلب عليها كبير اليوم، وأنها صعدت قبل قليل إلى غرفة سائح صيني. سأله جورج باندفاع وسذاجة:

وماذا يفعلان؟! هههه، وما أدراني؟

شعر جورج بالحرج من سؤاله، وأدرك أنه متوتّرٌ جدًّا، لا يدري ماذا يفعل.. صعد إلى غرفته.. كلّ ما كان يريده في تلك اللحظة هو أن ينتقم من كاترينا الخائنة بأي طريقة، فقرر أن يتصل على مايكل ليحضر له الفتاتين الفاتنتين اللتان رآهما في المطعم، وخاطب نفسه: دع مبادئك تنفعك لم لا تكن مثل كاخ أو توم، ماذا قدّمت لك هذه المبادئ.. لا شيء.. لا شيء..

ألو.. مرحبا مايكل. مرحبًا جورج، أخفتني عليك؛ فليس عادتك الاتصال هذا الوقت.

انتبه جورج ونظر في الساعة فإذا هي الساعة السابعة والنصف..

عذرًا لم أنتبه للوقت فقط أحببت أن أطمأن عليك، لعلي أتصل عليك غدًا، شكرًا مايكل. شكرًا لتواصلك، وسأتصل عليك غدًا.

ظلّ جورج يدور في غرفته متذّمرًا وغاضبًا، تنفلت عنه بعض الشتائم واللعنات، لا يعرف ماذا يصنع، فالشك والحيرة في زوجته أضعف شخصيته.. كان يود أن ينتقم منها مع أورميلا لكنه لم يجدها، حتمًا قد فاز بها شخص آخر أقل تعصبًا منه وأكثر مرونة مع تلك المبادئ التي تجعلنا نتراجع.. فقط ليأتي آخرون ويظفرون بالمتعة والجمال. تذكر في هذه اللحظة عندما سهرت كاترينا مع توم سابقًا، فدخل على الإنترنت، وبحث في صفحة توم عن صور قديمة، فوجد أنه وضع صور تلك السهرة أيضًا على صفحته، وأن الصور تقريبًا تشبه صور الحفلة الأخيرة؛ مما يعطي دلالة أنها في نفس المكان، الذي ربما يكون الكنيسة، ثم قال لنفسه: أي كنيسة هذه التي تسمح بمثل هذا الهراء!! ثم تذكر كيف تعامل مع السهرة السابقة، وكيف كان براد سيجعله مدمنًا، وتذكر كلمات آدم: “لو حسمت تساؤلاتك الرئيسية فستتعامل مع مشاكلك بشكل أفضل، وستكون نفسك أقوى في تعاملها مع الضغوط”. وقوله: “لا تجعل شكك فيها هو دليل إدانتها، ربما كانت مع توم لدعوته للمسيحية!” وقوله: “ركز على قضيتك الكلية لوصول روحك وحياتك إلى إجابة لهذه الأسئلة ببساطة وعمق وعند ذلك ستجد السعادة، وعند ذلك ستحل كل مشاكلك” وقوله: “حاول أن تتعامل مع كاترينا وتوم بشكل طبيعي عادي، فأنت مسافر للهند قريبا وعند عودتك لكل حدث حديث، وتأكد من أنك تأخذ الأمور ببساطة وبلا تعقيد وبسعادة وبلا اكتئاب” فتساءل في نفسه: ترى، هل آدم متفق مع كاترينا، أم هو يدافع عنها لأنها متدينة مثله؟ سأتّصل عليه لأنظر ماذا يخفي عنّي هذا الرجل!!

آلو مرحبًا من معي؟ أنا جورج من الهند مرحبًا بالغربي من الشرق، كيف أخباركم؟ بأسوأ حال، كاترينا سهرت ليلة كاملة حتى صباح اليوم مع توم. وكيف تأكدت هكذا؟ من توم نفسه، وقد وضع الصور على موقعه يمكنك الدخول ورؤيتها. وما الجديد؟ أنت تأكدت أنها سهرت معه المرة السابقة؟ نعم ولكن... المهم ماذا ستفعل؟ لا تضعف أمام الشك والحيرة، ركز على أهدافك من الرحلة سواءً أهدافك في العمل أم أهدافك في إجابة التساؤلات. أود أن أنتقم من كاترينا بأي شكل. قلت لك سابقًا لا تجعل أحدًا يتلاعب بك وأنت في فترة ضعفك وحيرتك، وأكرر عليك فنحن في فترات ضعفنا نضعف عن التمسك بمبادئنا، وكلما تمسكنا بمبادئنا أكثر ازددنا قوة. سأستمتع بفتاة هندية أو أكثر، وسأرسل لها الصور لأحرق قلبها كما حرقت قلبي. أنت بهذا تحرق نفسك، الانتقام بهذا الشكل تصرف الضعفاء، وستضر نفسك ومبادئك أكثر مما تضر كاترينا، افترض ـ وربما لا يكون كذلك ـ أنها خانتك مع توم من أكبر متضرر أنت أم هي؟ أنا. بل هي التي أحرقت مبادئها ودينها وسمعتها ونفسها، وأنت لا يضرك شيء، مع أني لا زلت أعتقد أنها ربما لا تكون كما تتوقع. لماذا تدافع عنها؟ ألأنها متدينة مثلك؟! لا أظنها متدينة إن كانت تخونك كما تقول، حتى ولو بدت كذلك، وإن كانت لم تخنك فهذا شيء آخر، ثم لماذا أدافع عنها وأنا لا أعرفها أبدًا؟ ولم أعرف أنها متدينة إلا منك الآن، فأنت كنت تقول لي أنها تشرب الخمر وتسهر فقط، ولم تقل لي أنها متدينة، ثم ما مصلحتي في ذلك؟ ثم أنت الذي سألتني وليس أنا الذي اتصلت عليك! عذرًا آدم فلم أرد أن أغضبك، ولكني متعب جدًّا، قررت أن أنتقم من كاترينا مع أورميلا. أعرف أنك لم تقصد إهانتي، لكن ينبغي ألا تحيلنا الضغوط عن مبادئنا، ومن هي أورميلا؟ فتاة فاتنة عرضت نفسها علي اليوم فرفضت، وكم أتمنى أن أجدها الآن. ولماذا رفضت؟ لأني لم أرد أن أهين مبادئي لنزوة أو رغبة أو شهوة.. أو لأني غبي أبله! والآن أنت مستعد أن تهين مبادئك؟! ماذا أفعل؟ عُد لمبادئك، وابحث عن إجابة لأسئلتك الكبرى، وسِرْ في طريق السعادة، وستصل وتتجاوز محنتك. أنا عائد إلى لندن بعد يومين ويجب أن أقابلك. أنتظرك.

مفاجأة جديدة مدوية!!

أغلق جورج السماعة وهو لا يعرف ماذا يصنع، فتح حاسبه، وخطر له أن يفتح صفحة آدم على الفيس بوك، وجدها صفحة تقليدية جدًّا، مقالاتها طويلة نسبيًا، وهو في حالة نفسية لا تسمح له بقراءة مثل هذه المقالات، ثم لفت نظره مقال بعنوان: (دروس من صديقي الباحث عن السعادة) كتبه آدم قبل 4 أيام..

دروس من صديقي الباحث عن السعادة: تعرفت قريبًا على شخص ذي مبادئ يبحث عن السعادة بتلهف، أعتقد أنه صادق في بحثه، لكن الضغوط عليه كبيرة، وقد تعلمت منه ومن قصته فأحببت أن أشارككم بالفوائد الآتية: من أراد السعادة فعليه أن يسعى في طريقها؛ فلا يصل إليها بالمال أو المنصب أو الوراثة، ولكي تصل إلى السعادة لا بد من البذل والإصرار في الوصول إليها. لا يسعد أبدًا ولا يمكن أن يكون سعيدًا من لم يستطع أن يجيب عن الأسئلة الكبرى في حياته (من خلقنا؟ ـ لماذا خلقنا؟ ـ لماذا نعيش؟ ـ إلى أين المصير؟)، ومن لم يستطع أن يحسم هذه الإجابات لن يصل إلى السعادة أبدًا. يُعقد بعض الناس الطريق إلى السعادة ويصعبونه، ثم يقولون: لم نستطع أن نتجاوز هذه الصعوبات، ولو سهلوا الأمور على أنفسهم ويسروها لوصلوا بيسر وسهولة. ينسى بعض الناس أهدافهم بالمشاكل الجزئية والأهداف القريبة الصغيرة، وعند ذلك يسقطون في منتصف الطريق ولا يصلون إلى السعادة أبدًا. لا ينبغي ولا يصح في أثناء الطريق أن نتجاوز مبادئنا، فالمبادئ منارات لا ينبغي تجاوزها، ومن يسعى إلى تجاوزها يحطم نفسه، وتبقى المنارات لا تتغير. متى ما صدق الباحث مع نفسه، وبذل وأصر وصبر تتيسر له من الأمور ما توضح له الطريق. ومازالت الدروس كبيرة سأحاول أن أكملها في مقال قادم ربما يكون قريبًا. تحياتي: آدم


ضعف..! (3)

لحظة الإنتقام

فيما كان جورج سارحًا بعد قراءته لمقالة آدم، يتساءل في حيرة:لم كتب آدم عنه ولم يخبره بذلك، حتّى لم يشر إلى اسمه؟ لم يتناقض آدم بين ما كتبه وما قاله لي، كان واضحًا وحاسمًا معي، لكن لا يهتمّ بمشاعري، وبحالتي النفسية! لو أخذت حبة هيروين، أو وجدت أورميلا، سأنسى ما أنا فيه، والنسيان سبيل السعادة.. آه، هل صحيح أن هذه الأساليب هروب إلى الأمام، أم هي حل صحيح يستخدمه العقلاء الذين لا يضيعون الفرص؟ كم أنا في حيرة! دق هاتف الغرفة، فرفع السماعة، فإذا هو موظف الاستقبال، يخبره بمجيء أورميلا..

هل تريدها أن تصعد إليك؟

سكت جورج فترة طويلة لا يدري ما يقول..

لا أدري! ماذا؟ أنا نازل لها الآن.

مضى نازلًا للاستقبال وهو يحدث نفسه: هل نزوله انتقام من كاترينا أو انتقام من نفسه كما يقول آدم؟ هل يطيع كاخ وتوم؟ أو يطيع آدم؟ وبينما هو في أفكاره، إذا بالمصعد يقف في الاستقبال، وما إن فتح الباب، فوجئ بالفتاة أورميلا واقفة أمامه.. رأته فابتسمت ابتسامة كبيرة، أشرق وجهها معها، وبان جمال ملامحها.

أهلًا أورميلا، ما رأيك أن نجلس هناك في ذاك المقعد؟ هههه، لا بأس.

لحظة جلوسهما، بادرته أورميلا بابتسامة..

كم شعرت بالسعادة عندما أخبرني موظف الاستقبال بسؤالك عني ورغبتك فيّ. لماذا؟ لأني شعرت أنك أهنتني عندما رددتني، وأني لم أكن جميلة ساحرة في نظرك. لم أهنكِ وإنما شكرتك، ولم أقل أنك لست جميلة بل أنت فاتنة كاسمك. لماذا لا نجلس في غرفتك لنسعد معًا إذن.. ثم غمزت بعينها.

مكاشفة ووضوح

أريد أن نتحدث أولًا. نتحدث في ماذا؟ هل من الممكن أن أسألك أسئلة بسيطة لكنها

تعني لي الكثير؟ وأريدك أن تكوني صادقة جدًّا معي. سأكون في غاية الصدق معك، فأنا لا أعرف لماذا أنت تشدني؟ هل أنت سعيدة في حياتك؟

سادت برهة من الصمت، قطعتها أورميلا وهي تنظر إلى الأرض..

وعدتك أن أكون صادقة ولن أخلف كلامي، مع أني لم أكن أتوقع مثل هذا السؤال، إن كانت السعادة بمعنى الضحك والابتسامة واللعب والمال والجمال فأنا سعيدة جدًّا جدًّا. أعني في داخلك وفي روحك تشعرين بالسعادة؟ فبعض الناس يضحك وداخله من الحزن والهم الشيء الكبير. وعدتك بالصدق، كأنك تصفني بالضبط، فأنا أهرب من داخلي بالمال والضحك واللعب والجنس، عن مواجهة همي وحزني الداخلي. وما سبب هذا الهم والحزن رغم كونك تمتلكين الجمال والمال والصحة، بل والمتعة؟ لا أعلم، ربما تكون الحياة العبثية التي أعيشها، فحياتي لا معنى لها البتة. وهل تبحثين عن معنى لحياتك؟ أو أن الموضوع لا يهمك؟ لا، فأنا أسوء من أن أجد الجواب، فالجواب معناه السعادة، وأنا لا أستحقها. لماذا لا تستحقين؟ لأني مجرد لعبة جميلة يلعب بي السياح، وألعب بهم من أجل متعة عابرة. ولماذا فرحت لما عرفتِ أني أنا بالذات أبحث عنك؟ فقط لأني فشلت في لعبتي معك، وأنا لم أعتد على الخسارة أبدًا. أتعرفين لماذا كنت أبحث عنك؟ لا، ثم ابتسمت وقالت: لا تقل لي أنك بحثت عني لتسألني هذا السؤال؟! لا، ليس من أجل هذا، بل شككت في خيانة زوجتي مع رجل آخر، فأردت أن أنتقم منها باستمتاعي بكِ. هههه، ألم أقل لك أني مجرد لعبة، تنتقم من زوجتك بنزوة كيدية معي، أأنا سافلة لهذا الحد؟! آسف، بل أنت فاتنة جدًّا، لكن مبادئي كانت تمنعني من أن أفعل شيئا يخالف خلقي وأدبي. والآن ـ حبًّا للانتقام ـ نسيت مبادئك! كم أنا رخيصة في نظر الناس! عذرًا لم أقصد إهانتك لكن هذا هو ما تقومين به. أنت لم تقل إلا الحقيقة! أحيانًا لا ينتبه الإنسان لنفسه، لقد أتممت قبل أسبوعين سنتين وأنا أقوم بهذا العمل، ولم يردني أي شخص عرضت نفسي عليه، كم كنت أشعر بجمالي في نظراتهم، وأشعر برخصي في ألفاظهم وتصرفاتهم عندما ننتهي وأهمّ بالانصراف.. هذه أول مرة يصرح لي شخص بهذا، فيجعلني أواجه نفسي. عذرًا.. أكرر لم أقصد إهانتك أو جرح مشاعرك. ربما.. لكن هذه الحقيقة! ماذا تعنين؟

عبثية وهروب

أحيانًا نهرب من أنفسنا ونخاف أن نراها على حقيقتها. لم أفهم!

مد جورج يده وأمسك يدها وحاول أن يسحبها إليه، فسحبت يدها برفق ودمعت عيناها وهي تقول:

العبثية والهروب من الحياة شقاء مهما بدا شجاعة. دعي عنك هذا، وأعتذر لكِ عما قلت. هههه، ستتنازل عن مبادئك انتقامًا من زوجتك، ألهذه الدرجة أنا تافهة؟! ماذا تريدين؟ هل تعنين أنك ترفضين أن نصعد ونستمتع ونهرب من حزننا وهمنا؟ نعم، هذه المرة أنا الذي أرفض.

بلا دين

ما دينك؟ لا ديني لي، وهل يفعل مثلي شخص متدين دينًا صحيحًا؟ زوجتي متدينة، وأظن

أنها تخونني مع رجل آخر! إما أن شكك وظنك في غير محله، أو أنها تكذب وتنافق وهي غير متدينة، أو أنها تدين بدين مشوه خاطئ، هل تتصور أن يكون لي رب يراني ويحاسبني وأجلس أتصيد الرجال.. بالمناسبة أبي وأمي بوذيان، لكني تركت البوذية؛ لتناقضاتها وطبقيتها المقيتة وأصبحت لا دينية. كيف تتكلمين هكذا عن دين آباءك؟ هو ديننا نؤلف فيه ونعدّل كما نريد، لذا إن أردت فلتعتبر اللادينية تعديل حديث في البوذية! بل كثير من التقليعات والموضات الحديثة هي تعديلات على أديان قديمة، فالإبداع حتى لو كان سيئًا ليس له حدود.. سأغادر الفندق وربما لا أعود له مرة أخرى أبدًا. لماذا لن تعودي له؟ لن أعود حتى أجد سببًا يعطي معنى لحياتي ويجعلني أحترم نفسي، أشكرك مرة أخرى. ستذهبين إلى أين؟

قامت أورميلا وخرجت ولم تجبه على سؤاله.

ضعف..! (4)

نصائح غالية في بلاد العجائب

استيقظ جورج متأخّرًا على اتصال مايكل.. فردّ عليه بصوت ثقيل يشي بالإرهاق..

هل ما زلت نائمًا؟ ما بالك؟ تنام وتصحو متأخرًا، هل تعلمت من كاخ؟ دعني من هذا، بقي لدي يوم ونصف في الهند، فبماذا تنصحني؟ هناك الكثير من الحدائق، الكنائس، دور العبادة، المتاحف، الأسواق.. ماذا تريد؟ لنقل الكنائس ودور العبادة. لا تنس أن تزور كنيسة سانت جيمس، فهي أشهر وأجمل كنيسة. وماذا غيرها، هل هناك أماكن عبادة للمسلمين والهندوس وغيرهم؟ مع إني لا أحبها، لكن جامع دلهي الكبير الذي بني في ست سنوات رائعة معمارية أيضًا. شكرًا لك، سأتناول فطوري، وسأزور هذين المعلمين. قبل أن تنهي فطورك سأكون عندك في الفندق. لا تتعب نفسك، سآخذ تاكسي. هههه، هذه ليست رشوة، لقد انتهينا من توقيع العقود، سأكون عندك بعد نصف ساعة، تحياتي.

ما إن أنهى جورج فطوره وهو يحاول أن ينسى خيانة زوجته له ويتناسى حواره مع أورميلا الذي يذكره بشكه في كاترينا، حتّى جاءه اتصال من مايكل يخبره بأنّه ينتظره في صالة الاستقبال، شرب ما تبقى له من كوب الشاي، وتوجه إلى لقاء مايكل.. ألقى عليه التحيّة ومضيا إلى السيارة متوجهين إلى الكنيسة..

لقد تذكرتك أمس عندما تحدثت مع عامل المطعم الهندوسي. ولماذا ذكَّرك الهندوسي بي؟ هههه، تذكرت كلامك عن جيوتسنا البوذية، يومها قلت لي: لو جلست معها أطول لما فكرت بالعودة إلى الهند مجدّدًا! هههه، فعلا.. فعلا، هذه أديان ألَّفها بشر في فترات التخلف الثقافي والعلمي، فكل دين جاء مفصلًا؛ ليحل مشكلة عندهم، أو ليقرر حقوق وممتلكات طبقة معينة منهم، ولكن بنظرة اليوم هي أديان ساقطة رغم النسخ الحديثة منها.. دعك من هذه الأديان وسأعرفك على كنيسة سانت جيمس التي سنصلها بعد قليل، بناها جيمس سكنر في 1836م، وهي من أقدم الكنائس في المنطقة، وذات طراز معماري فريد، وساحتها من أجمل الساحات.

أقدم كنيسة في بلاد العجائب

هي أقدم كنيسة في المنطقة؟! نعم، فهي قبل قرابة 200 إلى 300 سنة. وقبل 300 سنة لم تكن هناك مسيحية في الهند؟! المسيحية في الهند وصلت من طريقين: من طريق توما الرسول في إنجيل يوحنا وهو واحد من رسل المسيح الإثنى عشر في القرن الأول الميلادي، والطريق الثاني: هو الحملات الغربية بين عامي 1500 إلى 1975م، وهي تشكل ثالث الأديان في الهند بعد الهندوسية والإسلام، فالمسيحيين في الهند حوالي 24 مليونًا. فقط! عدد قليل النسبة للسكان. نعم، يشكل المسيحيون 2.3% من السكان، وعلى هذه النسبة تقوم مظاهرات غاضبة من التزايد الشديد؛ حيث يشعر الهندوس أن المسيحية تُفرض عليهم من الخارج بالمال. وهل من المناسب أن يُفرض دين على الناس بالمال؟ هههه، إلى حد ما، حتى نخلص الناس من العقائد الهندوسية البالية.

وصلوا للكنيسة ونزلوا يتأملون في جمال بنائها وصورها وتماثيلها وقببها؛ فقد كانت رائعة حقًا، ولم يكن هناك أي مظاهر للعبادة فيها فكأنها معلم تاريخي للزيارة فقط، وكان مايكل يصف لجورج كل شيء بسعادة بالغة حتى انتهت الزيارة وركبا في السيارة، فقال له:

ما رأيك؟ رائعة حقًا. ألم أقل لك ذلك؟ أين نذهب الآن؟

الإسلام والمسلمون في الهند

اتفقنا أن نذهب لجامع دلهي الآن. حسنا! وإن كنت لا أحب المكان، لكن نزولًا عند رغبتك. لماذا لا تحبه؟ المسلمون وحشيون برابرة. كيف؟ هل ألزموا الناس بدخول الإسلام بالقوة؟ الحقيقة أنهم لم يلزموا أحدًا في الدخول في دينهم البربري. إذن أغروهم بالأموال كالمسيحية؟! أفهم تلميحاتك، ولا هذه أيضًا. وكيف دخل الناس إذن في هذا الدين؟ آه.. قَبِل الناس هذا الدين أولًا من التجار العرب الذين جاءوا للتجارة في الهند. أي قبل الناس الإسلام محبةً فيه، لا إجبارًا لهم في ذلك! نعم للأسف، هذا صحيح فيبدو أنه من السهل خداع الناس والتلاعب بهم، فهروبًا من الطبقية الهندوسية المقيتة كان الناس يدخلون في الإسلام عند أول احتكاك لهم بالتجار العرب، حتى جاءوا غازين بعد ذلك. غازين؟! نعم، كانت أول الغزوات جاءت مع شخص يسمى محمد بن القاسم الثقفي، في سنة 700م تقريبًا. أي منذ حوالي ألف وخمسمائة سنة! وازدادوا حتى أصبحوا الدين الثاني في الهند. كم عددهم؟ أكثر من 180.000.000 شخص، وهو ما يعادل 14.5% من السكان. نسبة كبيرة! هذا يعني أنه لو لم تنفصل باكستان وبنغلادش ربما كانت الهند غالبيتهم مسلمين؟! نعم، لكنهم شعروا بالظلم من الهندوس فقامت ثورات كان نهايتها انفصال باكستان، ثم ابتسم وقال: وهذا أفضل لنا، فقد حكم المسلمون الهند من عام 1001م، ودام حكمهم 300 سنة تقريبًا. ألزموا الناس خلالها بالإسلام؟ لا، لكنهم كانوا ظلمة، بنوا القصور الفارهة الضخمة من كد المساكين الضعفاء. ذكر لي ذلك مطيع الرحمن عندما كنا في زيارة تاج محل! هذا من إنصاف مطيع، فقد ظلموا الناس في أرزاقهم وإن لم يجبروهم على دينهم، عمومًا كل الممالك التي مرت على الهند كانت ظالمة، ومن باب العدل ربما كان المسلمون من أعدل من حكم الهند ولم يُسقط دولتهم إلا الإنجليز بمسمى شركة الهند الشرقية بوحشية غريبة، فقد ثار الناس الهندوس والمسلمون عليهم. هذا يعني أن الهندوس يحبون الحكم الإسلامي؟ هههه، للأسف نعم، فلم يكن كل الحكام المسلمون ظالمين، بل الظلم وقع في آخر حكمهم، كما أن الحكام المسلمين ـ على ظلمهم ـ كانوا أعدل من شركة الهند الشرقية البريطانية.. آمل ألا يغضبك ذلك. التاريخ يُروى كما هو ولا يصاغ كما نريد. استمرت الثورة على بريطانيا حتى أسروا الملك المسلم وقتلوا أولاده، وقدموا رؤوسهم على مائدة الطعام، ثم حاربوا الإسلام وألغوا التعليم الإسلامي ونهبوا ثروات الهند. أي وحشية هذه.. أين حقوق الإنسان؟! حقوق الإنسان يمكن أن نسمع عنها في المؤتمرات واللقاءات، أما الواقع فشيئًا آخر، المهم اقتربنا من الجامع الذي كان مقر اجتماع الثوار على الإنجليز، وفيه أفتى علماء المسلمين بوجوب الجهاد؛ وعلى هذه الفتوى تحرك الناس بعد ذلك.. يسمى مسجد جهان نما أو مسجد جاما، وقد أخذ بناءه وقتًا طويلا، واكتمل في عام 1656م، أمر ببنائه الإمبراطور المغولي شاه جهان، وهو من أكبر مساجد آسيا؛ حيث يتسع لـ 25000 مصلي. جامع عريق إذن!

أشهر جوامع الهند

ربما، وهو مبني على الطراز المغولي بثلاث قبب، وها هو أمامك فقد وصلنا.

نزلا المسجد ونظرا في جمال بنائه.. كان يبدو على مايكل عدم الارتياح والمجاملة لجورج، فأسرع جورج وأنهى رؤيته للمسجد بسرعة، احترامًا منه لمشاعر مايكل الذي كان لطيفًا معه.

هل تريد الذهاب إلى مكان آخر؟ شكرًا، ربما يكون الوقت متأخر قليلًا. لكنك لم تعدل! لماذا؟

معبد أكشاردام في الهند

رأيت كنيسة ورأيت مسجدا، ولم ترَ معبدًا هندوسيا! كنت أود ذلك لكني أتعبتك. المعبد قريب من طريقنا، فهل تود رؤيته؟ بالطبع، إذا كان ذلك لن يؤخرك عن مشاغلك، فأنا سفري غدًا وسأتفرغ فيه لجمع حقائبي ولن أخرج كثيرًا. اسم المعبد أكشاردام، ويزوره كل يوم الآلاف من السكان المحليين والسياح الدوليين، وهو أكبر معبد هندوسي في دلهي، بدأ بنائه عام 2000م، وانتهى عام 2005م، فهو معبد حديث لكنه روعة معمارية، نقشت فيه آلهتهم على الجدران. نقشت الحيوانات وغيرها؟ هههه، نعم، تم نقش آلهتهم؛ مثل الحيوانات والراقصات، بل هناك فيه 20000 تمثال، ألم أقل لك الأديان الأرضية مضحكة، يبدو لي أنهم كلما تعجبوا من شيء أو أعجبهم شيء جعلوه إلهًا! أنت في بلاد العجائب على كل حال، فهنا من يعبد الفئران ولها معابدها، ومن يعبد الثعابين والأفاعي ولها معابدها، على كلٍّ قد وصلنا للمعبد الهندوسي. يبدو مبنى رائع الجمال. صحيح، فقد بُني بالحجر الرملي الوردي ولم يستخدم في بناءه الصلب أو الخرسانات، ومنقوش بزخرفة عالية، لننزل ولنسرع حتى لا تتأخر عن الفندق.

أعجب جورج جدًّا بالبناء، بيد أنه اشمأز من كثرة التماثيل فيه.. أخذا جولة سريعة في المعبد، وفي طريق عودتهما..

مبنى رائع، أما التماثيل وكثرتها فهي شيء مشين! نعم.. صدقت. العجيب أنه حتى الكنيسة فيها تماثيل، أما المسجد فلا تماثيل فيه! لكن تماثيل الكنيسة لليسوع وليست لحيوانات. ههه، صدقت، على كل حال أشكرك لقد كانت الجولة اليوم رائعة جدًّا.

في غمرة جولته اليوم، نسي جورج موضوع كاترينا وتوم قليلًا، وشعر بشيء من الهدوء والراحة، بدا له أن ما قاله له آدم كان صحيحًا: «ركز عل قضيتك الكبرى».. كانت هذه الجولة بالنسبة له خطوة إلى الأمام في طريق السعادة، فقد أصبح واضحًا له أنّ الأديان الأرضيّة لا تصلح للإجابة عن تساؤلاته؛ إذ كيف تجيب عن شيء هي تفتقده أصلًا، حتّى إنها تعدل وتغيّر نفسها حسب الظروف؛ لتصل إلى قدر من الاستقرار الديني الذي تنشده.. خطر له أن يرسل رسالة إلى آدم، ففتح حاسبه، وكتب له:

«صديقي آدم.. أنا شاكر لك نصيحتك وأعتذر عن سوء حديثي. وأصدقك القول: لقد استفدت من نصيحتك كثيرًا، وقد تجاوزت حب الانتقام الذي كان مسيطرًا عليّ، وركزت على قضيتي الكلية ولم أتشتت بقضايا جزئية، وقد أصررت وبذلت لذلك يومي كله، وأستطيع أن أجيب على سؤالك وسؤال الطبيب بوضوح: الديانات الأرضية لا تجيب على أي سؤال؛ فهي مجرد آراء بشر لم يخلقونا، فكيف يعرفون لماذا خُلقنا؟.. أكرر شكري لك، وأنا قادم غدًا، وسأسعد بلقياك وأشكرك مرة أخرى. صديقك جورج”.

ثم استلقى على فراشه سعيدًا بيومه وبتوجهه لقضاياه الكبرى..

ضعف..! (5)

هروب وتمرد على العقائد

استيقظ جورج من فراشه مبكرًا، وأخذ حمّامًا دافئًا ومنعشًا.. نظر في الساعة، بقيت أربع ساعات على الذهاب للمطار، سأنظر ماذا عساني أفعل فيهم، ولكن سأتناول إفطاري أولًا.. وبينما كان جالسًا على طاولة الإفطار، رأى النادل الهندوسي كابور الذي تحدث معه بالأمس، فناداه..

مرحبًا سيدي. مرحبًا بك، لقد أطلت عليك سابقًا، ولكن لدي أسئلة أخرى إن سمحت؟ لا بأس، تبدو مهتمًا بالهندوسية.. وهذه موضة غربية جديدة. وهل الهندوسية موضة؟! نعم الهندوسية والبوذية موضة عندكم في أوربا وأمريكا، وهم عادة يأتون إليها فرارًا من المادية البغيضة التي حولت الناس إلى آلات فيريدون شيئًا من الروحانية والأخلاق ولا يعرفون عنها أكثر من ذلك. جيد وواضح، لكني أريد أن أسألك سؤالًا؛ وهو هل أنت والهندوسيين بصفة عامة سعداء؟ ربما كان البراهمة الذي يستغلون الناس سعداء، وإن كنت لا أظن ذلك، أما أنا فمن الشوادر أي الخدم، هذا من جهة الطبقات، أما من جهة العقائد؛ فنحن نهرب من عقائدنا وكثرة آلهتنا بعمليات روحية أخلاقية تتجرد من الدنيا ومن الإله أيضًا، ألم تسمع عن غاندي؟ بلى، شخصية رائعة. ومتمردة أرادت أن تتمرد على الهندوسية؛ فقتله المتعصبون منهم. ولماذا يتمرد على دينه؟ لأنه لا يمكن أن نعيش أسوياء بكامل عقيدتنا، عذرًا ربما تكون ـ حسب الموضة ـ معجبًا بالهندوسية وأنا أفسد عليك ذلك. ولماذا لم تغير دينك؟ أنا ولدت لوالدين هندوسيين.. ثم ابتسم وقال: ولا أريد أن أتمرد حتى لا أكون غاندي آخر. هل تقبل مني هذا المبلغ هدية؛ فقد أخذت من وقتك الكثير؟ شكرًا لك.

قبيل مغادرة الهند

صعد غرفته وبدء بتجميع وتجهيز حقائبه، وبينما هو كذلك إذ دق هاتفه، رد عليه فإذا الطرف الآخر كريم الله..

مرحبًا جورج، أنا كريم الله. مرحبًا كريم الله. جئت بالأمس لأسلم عليك ولم أجدك، فوضعت في الاستقبال العقود مختومة من السفارة البريطانية في الهند كما اتفقنا، متى سفرك؟ شكرًا جزيلًا كدت أنساها، سأطلبها منه الآن، سفري بعد ساعتين.. هل تود أن أوصلك إلى المطار؟ شكرًا، فقد اتفقت مع الفندق أن يأتي لي بسيارة. العفو، أنتظر صورة من العقد مختومة من السفارة الهندية في لندن، أستودعكم الله.

وضع جورج السماعة، واتصل مباشرة على الاستقبال وطلب أن يوصلوا الأوراق إلى غرفته.. وضع السماعة وفكر: لماذا هو لا يرتاح أبدًا لكريم الله رغم أنه لم يجد منه شيئًا سيئًا، هل بسبب شبهه من بن لادن؟ أم بسبب دقته وبراعته في التفاوض؟ أو بسبب حديثه عن مديره كاخ؟ أم هو لسبب آخر لم يتبينه بعد؟ شعور غريب.. ربما لم أستطع نسيان تفجيرات القطارات في لندن، أو ربما هو من تأثير وسائل الإعلام؟ المهم أني لا أرتاح له ولا أدري لماذا.. قطع أفكاره وصول الأوراق من الاستقبال.. قلبها ونظر فيها؛ فإذا هي بالضبط كما يريد، ولم يبق إلا تختيمه من السفارة الهندية في لندن، نظر في ساعته فإذا الوقت قد حان ليذهب إلى المطار. اتصل على الاستقبال وطلب منه البدء في إجراءات الخروج، وأن يبكروا بالسيارة نصف ساعة إن أمكن حتى لا تتم أي مفاجآت أو زحمة في الطريق.. كان يتأمل شوارع الهند من نافذة السيارة وهو طريقه إلى المطار، كان الطريق مليئًا بالتماثيل، فكان يحدّث نفسه: لا يمكن أن أعبد أو أبحث عن إجابة لتساؤلاتي من أحجار أو بشر.. شكرًا للهند أن دلتني على أول طريقي للسعادة، كانت رحلة ممتعة رغم كل ما مررت به..


كلمات دليلية: