الهند.. بلاد العجائب

الهند.. بلاد العجائب

الهند.. بلاد العجائب (1)

مشقة وتعب السفر

في المطار، بعد أن أنهى جورج إجراءات الجوازات والدخول، وجد مايكل بانتظاره، وكان قد تعرّف عليه من صورة أرسلها له على بريده الالكتروني. رحّب مايكل به كثيرًا، وسأله عما إذا كان يودّ الذهاب إلى الفندق، أو أن يأخذه في جولة سريعة في المدينة.

أشكرك، لكن خذني إلى الفندق، فأنا متعب من السفر وتغيّر التوقيت، لعلنا نأخذ الجولة غدا صباحًا قبل الذهاب إلى المكتب.

لاحظ جورج أناقة مايكل البالغة، وتعامله المهذّب إلى درجة قريبة من التكلّف، وما لبث أن رأى وهو يمضي معه سيّارته الفارهة التي تكشف عن كونه ينتمي إلى طبقة الأثرياء في هذا البلد الذي يعجّ بالفقراء.

اليوم الأول في بلاد العجائب

في اليوم التالي، عند تمام السابعة صباحًا، نزل جورج من غرفته نشيطًا، بعدما أخذ قسطه الكافي من الراحة بالأمس. فوجد مايكل في صالة الفندق بانتظاره، كان كما رآه بالأمس بكامل أناقته اللافتة، حيّاه ومضيا معًا إلى السيارة.

ما رأيك أن نأخذ جولة لمدّة ساعة، وسنكون في المكتب في الثامنة والنصف؟ جيّد، أحبّ أن أتعرف على الهند.

كان مايكل طوال الوقت يشرح ويعرّف بالمباني والكنائس مفتخرًا بأنّ الهند دولة عريقة في التاريخ، وقد لاحظ جورج أنّه كان يتحاشى الحديث عن بعض المباني الضخمة، رغم سؤال جورج عنها، كما كان يتحاشى الحديث عن أصنام بوذا الموجودة بكل مكان، فقد سأله أكثر من مرة وراوغ في الإجابة، وكأنّه يريد أن يصوّر الهند دولة نصرانيّة فقط، فاكتفى جورج بالمشاهدة، ولم يعلّق، وتذكّر أنّ كاخ أخبره بأنّ مايكل كاثوليكي متعصّب. في الثامنة والنصف، كان جورج ومايكل قد وصلا إلى المكتب، فظلا حتّى الساعة الحادية عشرة مستغرقين في مناقشة الأعمال والمشاريع والعقود، وما إن أحسّ مايكل بالارتياح نحو جورج، رفع رأسه فجأة، وقال له:

أنت مسيحي مثلي، لماذا نسمح لكاخ اليهودي بأن يتلاعب بعقود الموظفين كلهّم، ما رأيك أن يكون التلاعب فقط في عقود الهندوس والبوذيين والمسلمين، ونشترط أن تكون عقود المسيحيين أفضل، لا أريد لهذا اليهودي أن يسرقنا! وهل من العدل أن نسرق الهندوسي والبوذي والمسلم؟!

سكت مايكل محرجًا.. وعادا يكملان ما كانا يقومان به من أعمال حتى الساعة الواحدة، هنا توقف جورج طالبًا الراحة فقد أُجهِد حقيقة. في الطريق إلى الفندق عادا من نفس طريق مجيئهما، فلما رأى مبنى كبيرا، تعمّد جورج أن يسأل مايكل مرة أخرى:

من بنى هذا المبنى الرائع؟ المسلمون.. المغتصبون. وما هذا؟ معبد بوذي متخلف.. يعبدون أحجارًا وأشخاصًا مثلنا!!

لما أحس جورج بتوتر مايكل من هذه الأسئلة آثر الصمت والاستماع بقية الطريق...

الهند.. بلاد العجائب (2)

حفل استقبال

اتفق مايكل مع جورج أن يمر عليه الساعة الرابعة؛ ليذهبا للغداء، فقد أعد له حفلة بسيطة لكنّها تليق باستقباله، وما إن نزل جورج من غرفته وركب سيارة مايكل، حتّى سأله متعجبًّا:

هناك عادات يطلبها كاخ عندما يأتينا، لم أرك تطلبها! وما هي؟ لنؤجل الإجابة حتى وصولنا للمطعم، أعتقد أنك ستستمتع بالمفاجأة!

وصلا مطعم تاج الهند، كان ينطق بالفخامة والعراقة من كل جوانبه، أعجب جورج بجمال المكان وروعته، فقد كان على الطراز التقليدي، وتعبق منه رائحة العود الهندي التي أعجبته رغم أنه لا يحب رائحتها في العادة، ابتسم له مايكل ابتسامة ذات مغزى، وقال له بأنّ جناحه الخاصّ سيكون أجمل بكثير. في الجناح الخاصّ، رأى جورج فتاتين فاتنتين أعمارهما قرابة العشرين سنة، كانتا تنظران إليه وتبتسمان، فصافحهما بابتسامة متبادلة، فغمزه مايكل وضربه عدة ضربات خفيفة على كتفه:

ما رأيك بالمفاجأة؟ رائعة جدًّا. كلما جاء كاخ جئت به لهذا المكان للغداء، ثم يأخذ معه الفتاتين أو إحداهما للفندق، ليقضي ليلة ممتعة.

استنكار واستياء!!

ظهرت على وجه جورج ملامح الاستياء، وأجابه ببرود:

المفاجأة الرائعة بالنسبة لي هي جمال المكان فقط. غريب، ألم تعجبك الفتاتين؟! هما جميلتان حقًّا، والغريب هو أنت! أنا لست كاخ! ماذا تعني؟ هل ترى ما يفعله كاخ أمرًا جيّدًا لأفعل مثله؟! لا يوقّع كاخ على العقود إلا بهذه الطريقة! إذن هي رشوة لي لأوقّع على العقود! عذرًا، ماذا تريد؟ أنا متزوّج، ولا أحبّ أن أخون زوجتي، أليست هذه هي المسيحيّة يا مايكل؟! بلى.. بلى!

جاء النادل بقائمة الطعام وقدمها لمايكل، فتكلم معه بالهندية فانصرف وانصرفت معه الفتاتين، ثمّ التفت إلى جورج وهو يصطنع ابتسامة:

أطلب لك على ذوقي، أم تحب أن تختار أنت؟ اختر أنت فأنت أعرف مني.

عن المسيحية والمسيحيين

أراد جورج أن يغير جوّ الجلسة التي أصبحت متأزمة، فتذكّر كاترينا التي طلبت منه مرارًا أن يحضر لها صليبًا من الهند، فهو يذكرها بانتصار المسيحيين على البرابرة المسلمين في الهند، ثم انفصال باكستان وبنجلادش عن الهند؛ فقال لمايكل:

أنت أعرف الناس بالصناعات الجيدة لصلبان مميزة، هل يمكن أن تدلني على مكان أشتري منه صليبًا لزوجتي؟ سيأتيك إلى غرفتك في الفندق.. ثمّ استدرك: وسأخبرك بقيمته، فليست رشوة! أتدري، رغم أني مسيحي بروتستانتي إلا أني أجهل المسيحية، وأنت متدين على حسب علمي، فهل يمكن أن تقنعني بديني؟! المسيحية دين سماوي من عند الله، ليس مثل الديانات الأرضية التي ألفها البشر. ما الأديان التي تعني؟ البوذية والهندوسية والزرادشتية وغيرها، توجد في الهند مئات من هذه الأديان.

استعاد جورج في ذهنه حديثه مع آدم، فوجد من نفسه رغبة في أن يواصل طرح الأسئلة على مايكل، ليرى كيف ينظر إلى الأديان، وكيف يفسّر وجودها.

وما الذي يؤكد أن النصرانية أو غيرها دين سماوي لا أرضي؟ يثبت ذلك التاريخ والتواتر والشهادات، فلو سألت هندوسيا سيقول لك أن المسيحية دين سماوي، وأنها دين يطوره البشر.. أظن أن البساطة تقتضي أن الأديان السماوية أصح من الأديان الأرضية. جميلة كلمة البساطة، نعم هي أصحّ، وهل في ذلك شك؟! هذا كلام كل المسيحيين، لكني وببساطة أود أن أتأكد من ذلك بنفسي وأن أراه بعيني.

عن الهندوسية والهندوس

بعد يوم مليء ومزدحم بالأحداث والحوارات، ذهب جورج إلى الفندق، وما إن استلقى على سريره، راح يسترجع ما مرّ به، فلم يشعر بنفسه إلا وهو يردّد كلام آدم: «تأكد من أنك تأخذ الأمور ببساطة وبلا تعقيد وبسعادة وبلا اكتئاب». فتح التلفاز ليجد برنامجًا باللغة الهندية، ومذيّلا بترجمة إلى الإنجليزيّة، عن الهندوسيّة وتعاليمها الأخلاقية الرائعة، أكد البرنامج أن الديانة الهندوسية عبارة عن خليط بين ديانة الآريين التي تنصب على تقديس القوى الطبيعية، وبين ديانة الهنود القدماء التي تركز في الغالب على الأشياء التي يحبها أهل الهند القدماء، وبعد فترة من الزمن تطور الوضع وصار هناك نوعًا من الاندماج، فبدأوا ـ خوفًا من ذهاب امتيازات بعض الطبقات ـ في كتابة بعض الأفكار حول هذه المسائل، وسميت هذه الأفكار فيما بعد بالفيدا أو الويدا، والويدا هذا هو أعظم الكتب المقدسة عند الهندوس؛ ومعناها: القانون أو الحكمة، فبدأوا يسطرون هذه القوانين أو الأحكام، والمراد منها: إعطاء الطبقة الآرية أو الجنس الأبيض ميزة تخالف ما لدى الطبقة السوداء، طبعًا بدأت كتابة هذه القوانين التي تعطي الأقلية الامتيازات المتتابعة، إلى أن تضخمت وكبرت، فصار حفظ هذه القوانين في القلب صعبًا، فقالوا: لابد من تدوينها وكتابتها، فبدأوا بالتدوين، استمر التدوين عشرة قرون - يعني: 1000 سنة - وتدوين هذا الكتاب المقدس عند الهنود متواصل، إلى أن ختم بقرار من المجلس الأعلى عند الكهنة الهندوس على أنه لا يمكن إضافة شيء على هذا الكتاب، ولو لم يختم بهذا القرار لاستمرت الإضافات على هذا الكتاب، وهو كتاب ضخم جدًّا يشكل عددًا كبيرًا من المجلدات، ولفت نظره تقرير في البرنامج يشير إلى أن الهندوسية دين لا يصلح إلا لمن هم في الهند، وأن الهندوس قرروا في مؤتمر علمائهم أن الدين خاص بالهنود، وأن الهندوسي عندما يخرج من الهند يصبح غير هندوسي، فضحك ساخرًا من هذا الدين العجيب المتعصب حتى للمكان، لكنه مسك نفسه:

على أيّة حال هي قضايا بشريّة، وليست إلهيّة، هكذا بكلّ بساطة.. بكلّ بساطة! كأني بدأت أرى ما أبحث عنه، وعلى كل حال هذا لا يكفي...


الهند.. بلاد العجائب (3)

شتان بين هذا وذاك!!

في الساعة الثامنة صباحًا كان مايكل على موعده ينتظر جورج في صالة الاستقبال، ابتسم لرؤية جورج قادمًا إليه، فحيّاه بلهجة حازمة، وقال له:

أمامنا عمل طويل اليوم مثل الأمس، فهل أنت جاهز؟ طبعًا، فأنا قدمت لذلك.

في طريقهما، رأى جورج تمثالًا غريبًا لا يشبه تمثال بوذا، فمال برأسه محدّقًا فيه، فبادره مايكل ضاحكًا:

ما بالك؟ هذا إله من الآلهة، ألم أقل لك أن الديانات الأرضية كل يوم تصنع لها إله جديدًا؟ أود أن أجلس مع شخص من هذه الديانات الأرضية. هههه، اليوم تتغدى مع مديرة القطاع التشغيلي في الشركة وهي بوذية متدينة.

وصلا الشركة وانهمكا في العمل، كان مايكل يلاحظ بوضوح أن جورج يختلف كلّية عن كاخ، فجورج يهمه الدين ويسأل عنه، ويود أن يتعرف عليه، كما أن لديه الكثير من المبادئ التي يحترمها، بخلاف كاخ الذي لا يهمه إلا المال والجنس، فلّما انتهيا في حدود الثانية عشرة، اقترب مايكل قليلًا من جورج، وقال له بنبرة هادئة:

بعدما انتهينا، أودّ أن أخبرك بشيء في نفسي. تفضل. أنت لا تشبه كاخ أبدًا، مع أنّ كلاكما من شركة واحدة. هههه، تعني فتاتيّ المطعم؟ هذه واحدة فقط، وغيرها كثير. حسنًا، ما سبب هذا الاختلاف برأيك؟ الدين بكل بساطة. وأنت، ألست متدينا وتساير كاخ؟ ربما، لكن.. ليس بالضرورة أن يكون ما أقوم به صوابا.

انتصب مايكل واقفًا للانصراف، ثمّ التفت إلى جورج:

ألا تريد أن تقابل جيوتسنا؟ ومن هي جيوتسنا؟! إنها المديرة التشغيلية البوذية.. أتعرف معنى جيوتسنا؟ لا. معناه: ضوء القمر، ثم ابتسم وقال: هههه، ولكن عمرها الآن قرابة الستين سنة، فليست رشوة. بالطبع أودّ مقابلتها، هل من الممكن أن تتغدى معي في الفندق الساعة الرابعة؟ ممكن، وبعد مقابلتها ستعرف نعمة المسيحية..

عندما نزل جورج من غرفته في موعد الغداء، وجد بانتظاره امرأة كبيرة في السن، كانت تقاطيع وجهها خليطًا من الهنديّة والصينيّة، أو أنّها هكذا بدت له، اقترب منها محيّيًا:

مرحبا، سيّدة جيوتسنا. مرحبا، تشرّفت بمقابلتك.

دعاها إلى تناول الغداء معه في البوفيه المفتوح في مطعم الفندق، فشكرته. كان واضحًا أنّها امرأة محترمة وخلوقة جدًّا. اختار جورج طاولة جانبيّة للجلوس، وكرّر ترحيبه بها:

حدثني مايكل عنك كثيرًا. وأنت كذلك، حدثني عنك مايكل، وقال لي أنّك طلبت تناول الغداء معي لأنّك تريد أن تتعرّف على البوذيّة! صحيح. قبل أن نتحدث، في ذلك لفت نظري شيء فيك، بل إن جميع الموظفين يتحدثون عنه في الشركة. ما هو؟ أنك لست مثل كاخ. وكيف عرفوا؟ انتشر خبر رفضك التفريق بين النصراني والبوذي والهندوسي والمسلم في التلاعب بالعقود، كما انتشر خبر رفضك للفتاتين! وغير ذلك. وهل يعجبهم هذا؟ على الأقل بالنسبة لي كبوذية، نعم.. جدًّا. أفهم عدم التلاعب بالعقود، ولكن ماذا عن الخيانة؟

عن البوذية

نحن البوذيين نكره الخيانة والشهوات، بل نرى أن الرذائل ترجع لثلاثة أمور، أولها: الاستسلام للملاذ والشهوات؛ فمن وصايا بوذا: “لا تقض على حياة حي، لا تسرق ولا تغتصب، لا تكذب، لا تتناول مسكرًا، لا تزنِ، لا تأكل طعامًا نضج في غير أوانه، لا ترقص ولا تحضر مرقصًا ولا حفل غناء، لا تتخذ طبيبًا، لا تقتن فراشًا وثيرًا، لا تأخذ ذهبًا ولا فضة”. وصايا رائعة جدًّا، ولكن لدي ـ إن سمحتِ ـ بعض التساؤلات: لماذا لا تتخذوا طبيبًا، أو لا تأخذوا ذهبًا ولا فضة؟ أو لا تقتنوا فراشًا وثيرًا! أهي اشتراكية؟ الزهد في الدنيا من أهم علامات البوذية، وتتضمن ترك الزواج والغنى، وهجر الذات، وغير ذلك من الأمور كالتي سمعتها؛ فالدنيا أم الشرور. أتعجب أن تكون أهم علامات البوذية هي ألا نعيش ولا نسعد في هذه الدنيا، فطبيعة البشر حب المال والميل للجنس الآخر...، ومَنْ هو بوذا؟ قلت لك الدنيا أُمّ الشرور، والزهد في الدنيا أُمّ الخير، أما إجابة من هو بوذا؟ من هو بوذا؟ هذا سؤال تصعب إجابته! كيف تكون الإجابة على من هو بوذا صعبة؟ أليس هو إلهكم أو رسولكم أو مخلِّصكم وإليه تنتسبون؟! لقد وقفت على نصف الصعوبة، نحن لم نتفق هل هو رسول، أو مخلِّص، أو إله، أو ابن الله، أو معلم أو غير ذلك... معقول؟! شمال الصين يختلف عن جنوبه، ويختلف عن بورما وسيلان في تحديد ذلك، عمومًا ليس هذا هو المهم، المهم أن تسمو بنفسك روحيًّا لتكون بوذيًّا. وسمو النفس بأن تترك الزواج والمال، وأن تتحمل الخشونة في الملبس؟! نعم، ولا تسرق ولا تكذب ولا تسكر ولا تقتل.

لم يغب عن ناظريّ جورج ـ وهو يتحدّث إلى جيوتسنا ـ لبسها الأنيق الفاره، فتعمّد سؤالها وهو يصوّب نظره على هندامها:

وهل يلتزم البوذيون بذلك؟ نعم.. ثم ابتسمت: إلى حد ما، ظروف الحياة لا تمكننا أن نعيش بهذه الوصايا الحكيمة. إذن هي وصايا أخلاقية فقط، ولا تصلح للحياة عند غالب الناس؟! إلى حد ما أيضًا.. حتّى أنتم كذلك. ماذا تعنين؟ بصراحة، مايكل متدين جدًّا، ومع ذلك يحضر الفتيات لكاخ عند كل زيارة بنفسه! ويتلاعب بالعقود! أعرف كثيرًا من المسيحيين يشربون الخمر، أليست هذه الأخطاء موجودة عندكم؟ صدقت، ولكن يهمّني التركيز على الدين نفسه. لا فرق كبير عندي، وأظن أننا مثل بعضنا.

ثم أخذت تمسح فمها إشارة إلى انتهائها من الأكل، فنادى جورج النادل وطلب لها طبقًا من الحلوى الهندية، ثم تابع كلامه معها:

لستم متفقين على إلهكم أو رسولكم أو.. فهل أنتم متفقون على الشرائع والأحكام والوصايا؟ نحن نطور هذه الوصايا كل فترة من الزمن وكل منطقة... تطورون!! نعم، فالبوذيّة دين يتطور مع الزمن؛ فهي من صنعنا وليست سماويَّة كما تدَّعون في المسيحية، وإن كان يقال لدى بعضنا أن لها أصلا سماويًّا، وأنا أشك في ذلك. هل لي أن أسألك سؤالًا مباشرًا بسيطًا ولو كان محرجًا؟ تفضل فالبوذيون يعشقون البساطة. هل تعتقدين أن الدين السماوي أفضل أم الأرضي؟

أطرقت جيوتسنا قليلًا، وصمتت برهة، ثم رفعت رأسها وتنهدت:

حتى لا أكذب.. لا شك أنه إن كان سماويًّا فهو أفضل.. هذا من حيث المبدأ، وإلا فكثير من المتدينين بأديان سماوية هم من أسوء الناس.. ثم ابتسمت: خذ مثالًا كاخ اليهودي، وبنسبة أقل مايكل المسيحي، اللذان يتلاعبان بأموال الناس ويسرقونهم! صدقت.. صدقت، ولكن لماذا لم تعتنقي دينا سماويًا وتكوني صالحة؟ ولدت من أب وأم بوذيين، ولهذا أنا بوذية، ولكن من يدري!! ربما أكون بعد الموت يهودية أو مسلمة أو مسيحية. بعد الموت؟! نعم.. فروحي ستنتقل لشخص آخر بعد وفاتي، وأنا عمري الآن ستون سنة. هل تصدقين بتناسخ الأرواح؟ لا، ولكنه في ديننا.

بدا التعب واضحًا على جيوتسنا من النقاش والأخذ والرد، خاصة أنه كان بعد الدوام والعمل مباشرة، فرغبت بأن تُنهي اللقاء، فجسدها لا يحتمل المزيد من الجلوس.

هل هناك أسئلة أخرى أو خدمة أقدمها لك؟ لا شكرًا، لقد خدمتيني كثيرا، وتعلمت منك الكثير.

ودّعها، وانصرفت. اتصل مايكل بجورج في آخر النهار، يخبره بأنّه سيجد الصليب الذي طلبه عند موظف الاستقبال، وأتبعه بشيء من الاستهزاء: وهو مسجّل على فاتورة الفندق لكيلا تظنّ بأنّه رشوة! فشكره جورج وضحك معه دون أن يجد أيّ حرج في نفسه.

أخبرني، هل عرفت نعمة المسيحيّة بعد مقابلة جيوتسنا؟ تقريبًا. لو طال اللقاء لسمعت من الغرائب ما يشيب له الرأس، هل حدثتك عن خيالاتهم وفلسفاتهم؟ خيالاتهم!.. لا. هههه، هذا أفضل، وإلا لما عدت إلينا في الهند مرة أخرى، وإن كنت أتوقع أن ما سمعته كافٍ لأن تعرف أن المسيحية أفضل. تعني الديانات السماوية كلها؟ هذا ما أراه، ألقاك على خير يا صديقي.

أمضى جورج ليلته في غرفة الفندق، يتصفّح المواقع على الإنترنت، ويشاهد التلفاز حتّى تملّكه النعاس، فاستلقى على السرير، كان يومًا متعبًا بالنسبة له، لم يكن تعبًا جسديًّا، ولكنّ رأسه مثقل بالتفكير في المهام والمسؤوليات وتفاصيل العمل، إضافة إلى تساؤلاته الشخصيّة التي كانت أكبر دافع له للمجيء إلى الهند، وفي خضمّ ذلك كلّه، لا تكاد تفارق ذاكرته وصيّة آدم: «تأكّد من أنّك تأخذ الأمور ببساطة»، فما لبث أن استشعر راحة كبرى، فاليوم تبيّن له جزء من تخبّط الديانات الأرضيّة، وبُعدها عمّا يلائم البشريّة، وهو ما يوقن به، فكيف يمكن أن يخبرنا بشر مثلنا عن سبب خلقنا؟!

الهند.. بلاد العجائب (4)

بعد يوم متعب جدًّ

في صباح اليوم التالي، مضى جورج إلى سوق الحاسب الكبير في دلهي، وركب المصعد إلى الدور الخامس، حيث مكتب مطيع الذي يملك أكبر سلسلة محلات في الهند لبيع الحاسب الآلي وبرامجه. وجد جورج المكتب تقليديًّا، لكنّه كان فاخرًا وبسيطًا في آن واحد، وكانت رائحة العود الهندي تملأ الأرجاء، دخل وسأل موظف الاستقبال عن مكتب مطيع، فأجابه:

الشيخ مطيع، في الجهة اليمنى، آخر باب على اليمين، ستجد مكتب سكرتيره.

ذهب جورج وهو يردد مع نفسه مستغربًا: الشيخ مطيع!! شيخ! ماذا تعني؟! ألقى التحية على السكرتير، وكان يعمل على جهاز الحاسب الآلي، ثمّ قدم نفسه وبطاقة أعماله، وأخبره بموعده مع مطيع.

تفضل، الشيخ في انتظارك منذ خمس دقائق.

أسرع اتفاق في التاريخ

نظر جورج في ساعته، فعلا كانت تشير إلى الثامنة والنصف وخمس دقائق. ما إن دخل جورج المكتب الذي تبدو فيه ـ رغم الفخامة ـ الفوضى، حتّى قام مطيع إليه مرحبًّا، فشكر له لطفه، وشرعا في مناقشة مهام العمل.

هل من الممكن أن توضح لي آفاق التحالف الممكن بيننا؟ ببساطة أي شيء فيه مكسب لي ولكم.

ارتاح جورج لهذه البساطة العميقة، وصافح مطيع، وعقّب ضاحكًا:

اتفقنا.. هذا أسرع اتّفاق في التاريخ، لكن ينبغي أن نعرف: ما هي الطريقة التي تربحنا جميعًا؟ أظن أن أخي كريم الله أفهم وأعرَف مني في هذه التفاصيل، يمكنك أن تتناقش معه، لكنّه غير موجود الآن. اجتمِعا غدًا الساعة التاسعة صباحًا، واكتبا تفاصيل اتفاقنا... هل أخذت جولة في دلهي وضواحيها؟ وإلا فحقك علينا ـ كضيف ـ أن أرتب لك هذه الجولة. أخذت جولة قصيرة لمدة ساعة ونصف تقريبًا. إذن لم تر شيئًا ذا بال؛ فالهند بلد عريق جدًّا،.. هل تسمح لنا بضيافتك؟ بكلّ سرور. إذن تفضل، توكلنا على الله. إلى أين؟ جولة، سنبدأ فيها بتاج محل.

جولة في تاج محل

نزل جورج مع مطيع ليجد سيارة مطيع الفارهة مع سائقه الخاص بالانتظار، ركب مطيع في الخلف بجوار جورج.

الطريق إلى تاج محل يأخذ حوالي ساعة ونصف، فالطرق ليست مزدحمة في هذا الوقت، والطريق بحد ذاته نزهة، أمّا تاج محل فتحفة معماريّة من عجائب الدنيا، لن أفسدها عليك بوصفها، ستراها بنفسك. من بناها؟ الملك شاه جهان، وهو نموذج للعمارة الإسلامية في الهند. الإسلاميّة؟! نعم. عذرًا، ولكن أليس المسلمون مغتصبين لأراضي الهند، وهم قوم من الهمج والبرابرة؟!

ابتسم مطيع..

نعم.. نعم سرقنا الهند، وقتلنا أهلها، ونهبنا خيراتها! آسف، هل أنت مسلم؟ نعم، وكنت أظنّك تعرف. أعتذر عن سؤالي، ولكن هكذا نسمع عن المسلمين. لا عليك، أنا لم آت ولا غيري من المسلمين من خارج الهند لنسرق خيراتها.. أنا هندي ابن هندي ابن هندي، وإذا أردت أن تعرف من الذي سرق الهند فانظر عندما تصل إلى تاج محل، من الذي قطع الجواهر منه؟ مَن؟ اسأل المرشد السياحي عندما نصل.. وأرجو ألا يزعجك ذلك، أنا أعرف ما يشاع عن المسلمين ولا يهمني الرد، وأظنّ أن قراءة مختصرة في تاريخ الهند يبين لك ما أعني. كيف؟ بإمكانك أن تكتب (تاريخ الهند) في أي محرك بحث على الإنترنت، وستعلم من الذي احتل الهند وسرقها، وهل المسلمون سكانها الأصليون، أم قدموا إليها. وانظر كيف عاشت الطوائف الأخرى في حكم المسلمين.. ثم استدرك ضاحكًا: وإن كانت توجد أخطاء كثيرة، منها تاج محل الذي سنذهب إليه الآن، فقد بني مقبرة لزوجة شاه جان. أنت تتحدث ببساطة! البساطة في النظر إلى الحياة هي أحد عناوين السعادة والرضا.

استمتع جورج بالرحلة كثيرًا، وفاجأه أن سرقة الجواهر من المتحف كانت أيام الاحتلال الإنجليزي، ولم يحب مطيع أن يجرح مشاعر ضيفه، وأحب جورج في مطيع ابتسامته وصفاء نفسه، لكنه كان يتحسس منه في شيء واحد، إذ تركه مطيع ثلاث مرات في الرحلة، قائلًا له: انتظرني سأصلي وأعود، كما أن الفوضوية والارتجالية واضحة في كل تصرفاته. انتهت جولة مطيع، ووصل جورج إلى الفندق في الثامنة مساءً مرهقًا، فأخذ حمّامًا دافئًا، وذهب إلى فراشه، لكنّه ما إن تمدّد حتّى خطر له أن يتّصل على مايكل يستشيره في طبيعة الاتفاق مع مطيع.

ألو.. مرحبا، لدي استشارة سريعة، يبدو مطيع سهل في الاتفاق، فهل هي السهولة الخادعة؟ رغم عدم ارتياحي لمطيع إلا أنه فيما يبدو لي صادق، ولكنه أيضًا غير مرتب في أعماله، ولو رتب نفسه لأعطى نتائج أفضل بكثير. لكن كاخ كان يقول لي أنه معقد وصعب، فوجدته عكس ذلك. نعم معقد في دينه، سمح وبسيط في تعامله وصفقاته، ثم ضحك وأردف: ومعقد في أنه لا يطيع كاخ في نزواته وفتياته، ولذا لم يتفق معه كاخ رغم كثرة جلساتهما ، أعرفت السبب الذي من أجله يحضر متدين مثلي الفتيات الجميلات لكاخ! غدًا سأجلس معه لعقد الاتفاق، فهل هناك وصايا معينة تنصحني بها؟ أبدًا.. ليس لدي شيء آخر، روح القدس تحميك، هل تريدني أن أوصلك أو آخذك في جولة غدًا؟ شكرًا.. إن احتجت لشيء سأتصل عليك. إلى اللقاء.


الهند.. بلاد العجائب (5)

دين العجائب!!

صباحًا، فيما كان جورج يتناول إفطاره في مطعم الفندق، تحدّث مع النادل الذي كان يتكلم بإنجليزيّة ركيكة:

ما اسمك؟ كابور. يقال إن الهند بلاد الأديان، فما دينك؟ هندوسي. رائع، دين أخلاقي. نعم هو كذلك. هل صحيح أنه لدى رجال الدين عندكم لا يصح اعتناق الدين إلا لمن في الهند، ولهذا يسمى هندوسيا؟ نعم، فقد صنعنا هذا الدين ليتناسب مع سكان الهند. صنعتم الدين!! نعم صنعناه ليناسبنا! ومن هو إلهكم الذي تعبدون؟ نحن أغنى عقائد العالم بالآلهة!! فلدينا عدد كبير جدًّا جدًّا من الآلهة، بل ربما نحتاج لمجلدات لحصر أسماء آلهتنا، حتى قال وول ديورانت صاحب كتاب (قصة الحضارة): إن إحصاء هذه الآلهة ربما يصل لمائة مجلد. غريب جدًّا! نحن نعبد بعض الأجرام السماوية، ونجعلها آلهة كالشمس، نصف بعض الآلهة بأوصاف الملائكة ونصف بعض الآلهة بأوصاف الشياطين. إله أقرب إلى الشيطان! بعض التمائم آلهة، وبعض الطيور آلهة، وبعض الحيوانات آلهة. حيوان إله! الفيل مثلًا هو الإله (جانيشا)، وفيه تتجسد الطبيعة الإنسانية الحيوانية، والأفعى القاتلة من عضة واحدة هي الإله (ناجا)، ونحن نقدم لهذه الأفاعي اللبن واللوز ونقيم لها الاحتفالات تعبدًا. وكيف تعبدون كل هذه الآلهة؟! لكثرة الآلهة اختزلناها في ثلاثة أو واحد ذي ثلاثة أقانيم. واحد بثلاثة أقانيم.. مثل المسيحية! ربما نكون أخذنا هذا من المسيحية، فنحن نطور ديننا بأنفسنا، وربما تكونوا أخذتم هذا مننا. مممم، أكمل... المهم أن الثلاثة آلهة أو الإله ذو الأقانيم الثلاثة هي: (براهما) وهو الخالق، و (فيشنو) وهو الذي يحفظ العالم، و (شيفا) وهو إله الهلاك والفناء والدمار. دين العجائب! لكن لم تتحدث عن البقر؟! فقد سمعت أنكم.. هههه، سأقول لك كما يقول غاندي: البقر إلهنا، وأحب إلينا من أمهاتنا، فأمي ترضعني سنة أو سنتين وأخدمها طوال عمري، بينما البقرة ترضعني طوال العمر ولا تطلب غير طعامها، وأمي عندما تموت تكلفني مراسم للجنازة والدفن، بينما البقرة عندما تموت نستفيد من كل شيء فيها حتى عظمها. وهل عبادتكم هذه توصلكم للجنة بعد الموت؟ لا يوجد جنة ولا نار عندنا. إذن كيف يُكافَئ المحسن ويُعاقَب المسيء؟ أم أنهما سواء؟ يكافَئ المحسن بعد موته بانتقال روحه لرجل صالح، ثم قد تتحد بالإله براهما في رحلة الانطلاق، أما المسيء فتشقى روحه بأن تنتقل لشخص شقي.

من قُبح وسوء الديانات الأرضية

وهل تفرقون في الدنيا بين الطائع الصالح والمسيء الشقي؟ نعم، فبعضنا له من مقام الألوهية نصيب. كيف؟ خلق (براهما) الخالق كل طائفة من جزء من جسمه، فخلق البراهمة من وجهه؛ ولذا فهم أهل الفكر والحكمة، والكشتريين من ذراعه؛ ولذا فهم أهل البطش والقوة والحماية والجند، والويش من فخذه؛ لذا هم من يقومون في المجتمع بالتجارة والصناعة وتأمين الغذاء، وخلق الشودر من قدميه؛ لذا هم الخدم والعبيد وعليهم الخدمة، وعبادتهم في خدمة الطبقات الثلاث السابقة، أما المنبوذين فهم لا يدخلون في هذه الأقسام الأربعة ولا يدخلون في التركيبة الهندوسية. ولو كنت شودريًا فهل من الممكن أن أصعد من درجة الشودر إلى البراهمة، ولو كنت منبوذًا هل من الممكن أن أدخل الهندوسية؟ مستحيل.. عبادة الشودر خدمة الطبقات الأخرى، والمنبوذين خارج تركيبتنا كليًّا.

عقدت الدهشة لسان جورج، وأحسّ بالاشمئزاز من سوء هذا الدين، لكنّه تكلّف ابتسامة ودّع بها كابور، وأخرج مبلغًا صغيرًا أعطاه إياه، ونهض لمقابلة كريم الله، لئلا يتأخر عن موعده معه. في طريقه، استعاد كلام مايكل له، عندما أخبره عن سوء الأديان الأرضية، وأنّه لو جلس مع جيوتسنا أطول لكره الهند بأسرها، وما كان ليعود إليها مرة أخرى. فعلا كم هذه الأديان مناقضة للعقل والفطرة، ولكن هل هذا سوء الأديان الأرضية، أم سوء الأديان جميعًا كما قال طبيبه توم: “ستعود وقد زهدت في كلّ الأديان”؟ فهذا مايكل المتدين حاله كحال كاخ، وليس بأحسن منهما مطيع في فوضويته! كان متأكدًا أن الدين الحق لا يمكن أن يكون متناقضًا أبدًا لا مع العقل ولا مع الفطرة ولا مع المنطق، لكن هل هذا الدين موجود أم لا...؟

الهند.. بلاد العجائب (6)

شبيه أسامة بن لادن

وصل جورج في تمام التاسعة إلى مكتب سكرتير مطيع، فطلب منه مقابلة كريم الله، فأخبره بأنّه ينتظره في مكتب الشيخ، وعندما دخل وجد الأخوين مطيع وكريم الله يتحدثان، فقاما إليه ورحبا به. نظر إلى وجه كريم الله فانقبضت نفسه ولم يرتح إليه كثيرًا، ولكنّه لم يعرف لماذا!

تفضل إلى مكتبي، أنا جاهز لصياغة الاتفاقية.

فقاطعهما مطيع:

بعد انتهائكما، أود أن أراك يا جورج قبل انصرافك. وأنا أيضًا حريص على أن أودعك قبل انصرافي.

مضى جورج بصحبة كريم إلى مكتبه، وكان مكتبًا فسيحًا وبسيطًا أيضًا.

قال لك أخي إننا موافقون على أي اتفاقية تُكسِب الطرفين. نعم.. أنت تشبه شخصًا...! أشبه أسامة بن لادن! هههه، لست أول شخص يقول لي ذلك. أرجو ألا تكون مثله. أنا مثله مسلم، وأختلف عنه بأني هندي وهو عربي. أعني لست مثله سفاحًا إرهابيًّا. دع عنك هذا الموضوع؛ فهو إرهابي لأنه لا يعجبكم ولا يوافقكم. كيف؟ أوليس هو وأتباعه من يفجرون القطارات والعمائر والمنشآت عندنا؟! قتل بعض الرؤساء منكم أضعاف ما قتل بن لادن ولا تعدونهم إرهابيين، بل قتلت الدول الغربية أضعافه في الدول التي احتلتها ولا نراها إرهابية، ثم ابتسم وقال: وهو لما كان يقاتل عدوكم روسيا كان بطلًا ولم يكن إرهابيا.. دعنا ندخل في عملنا لو سمحت.

شعر جورج بالفجوة تزداد بينه وبين كريم الله، فعزم ألا يفتح معه حوارًا خارجيًّا، فقط سينهي متطلبات العمل، وفي أسرع وقت ممكن، وحدّث نفسه لعلّ توم صادقًا، فهؤلاء المسلمون يدافعون عن أكبر إرهابي في التاريخ!

جيد، ليس هذا موضوعنا. هل لديك مسودة مقترحة للاتفاق، أو أعطيك مسودة من عندنا؟ لدي مسودة، ولكن أعطني مسودتك لأقرأها. تفضل. شكرًا.. أعطني دقائق لأقرأها.

صراحة وصدق ووضوح وبساطة

بدأ جورج في قراءة المسودة، فلاحظ أن البنود بسيطة يسيرة، ضابطة إلى حد ما، وأفضل مما كتبه في مسودته وتعب فيه، لكنها تعطي حرية كبيرة لشركتهم؛ فالتفت لكريم الله الذي كان مشغولًا بقراءة كتاب.

أجدها مناسبة ورائعة جدًّا، فقط لي ملاحظة يسيرة. تفضل ما هي؟ ألا ترى أن فيها حرية كبيرة لشركتكم، وتأخر في الدفعات المالية علينا! هي إذن ملاحظتان: الحرية؛ حتى أستطيع أن أتحرك بشكل أكبر في التوزيع، وأيضًا لأننا للأسف لسنا منظمين بشكل كبير، وتأخر الدفعات المالية؛ لأننا لا نريد أن نكذب في اتفاقنا معكم. لا تريد أن تكذب، كيف؟ بأن أعدكم وأخلف الوعد، لو لم أكن حرًّا، فسأضطر إلى الاعتذارات المتكررة بأسباب واهية كاذبة وهو ما لا أريده، لا أنا ولا أنتم، ثم هذه الشروط تجعل مبيعاتكم أكبر؛ وبالتالي تكسبون أكثر ولكم في العقد ضمانة بنكية كاملة بالسداد. هل من الممكن أن نقدم الدفعات الدورية ثلاثة أشهر، اتفقنا؟ اتفقنا، فأنا أريد أن أكون سمحًا معك، حتى لا يأتينا كاخ المرة القادمة. لماذا لا تريد كاخ؟ أعتذر عن الجواب حتى لا أزعجك. لن تزعجني أبدًا، قل لماذا؟ لا يفكر إلا في الربح المادي، وبطريقة فجة تخسرنا وتخسره، أعتقد أن المبادئ تكسب جميع الأطراف، كما أنه يذكر كثير من التلميحات الجنسية التي لا يمكن أن نقبلها، عذرًا فنحن الشرقيين أكثر محافظة. لا بأس أتفق معك في كثير مما تقول، اتفقنا وأنتظر تصديق العقد من سفارة بريطانيا، ولما أعود سأصادقه من سفارة الهند هناك. أشكرك، وأعتذر عما قلته عن مديرك. لا عليك، أود أن أسلِّم على مطيع الرحمن قبل سفري. تفضل، هيا بنا.

دخل جورج وكريم الله على مطيع الرحمن، فرحب بجورج ترحيبا خاصا، ثم سأله:

انتهيتما من الاتفاق؟ نعم. وهل كان سهلًا وبسيطًا ويسيرًا كما قلت لك؟ بسيطًا جدًّا. كل شيء بسيط ناجح، وكل تعقيد هو خلاف للعقل والفطرة والدين.. ثم أردف: بما أنكما انتهيتما، فماذا تريد يا جورج أن ترى من الهند لنوصلك له؟ فالسياحة في الهند بلاد العجائب جميلة. شكرًا.. أود أن أرجع اليوم مبكرًا للفندق؛ فلدي أعمال على الإنترنت أود أن أنجزها. كما تريد، ثم فتح الدرج وأخرج علبتين فاخرتين من دهن العود، وقال: وهذه هدية مني لك، ثم وضعها في كيس فاخر، وقال له: السائق ينتظرك لتوصيلك للفندق. هذا كرم شرقي نادر، أشكرك غاية الشكر، ثم أخذ الكيس وودعهما.


الهند.. بلاد العجائب (7)

تهافت الأديان الأرضية

لقي جورج السائق بانتظاره، وما إن رآه قادمًا حتّى توجه إليه، وقاده إلى السيارة، وفتح له الباب:

تفضل سيدي. شكرًا جزيلًا، ما اسمك؟ ستيفن. أوه، اسم غربي! أنا مسيحي، ولذلك اسمي يشبه الأسماء الغربيّة. منذ متى والمسيحيّة في الهند؟ منذ سنين. وهل للاستعمار والقوافل التنصيريّة دور في ذلك؟ بلا شك، وإلا كان اجتاح المسلمون الهند. المسلمون! تقصد أنهم سيجتاحون الهند بإرهابهم؟ لا، أنت لا تدرك تهافت الأديان الأرضيّة، هي أديان تافهة ومضحكة، لو لم تكن هناك حملات تنصيريّة، لتحول الناس إلى الإسلام تلقائيًّا. لقد تعرّفت على بعضها، لكن الأديان السماوية لا تختلف عنها! عجيب! كيف تكون مسيحيًّا وتقول ذلك؟ هذه لهجة الملاحدة! أكره الإلحاد وأرى تناقضه، لكن الأديان السماوية لا تبتعد كثيرًا عن الأديان الأرضية.

المسيحية وخلاص البشرية

أما نحن المسيحيين فنريد خلاص البشرية من شقائها، ونؤكد على أهمية النقاء والصفاء

والأخلاق، ولا أقبل اتهام المسيحية بحال من الأحوال، ولا أقبل ذلك من مطيع الرحمن المسلم مع أني سائقه الخاص، رغم أنه لم يفعل ذلك أبدًا، فكيف إذا جاء من مسيحي؟! لكن ربما لأنك بروتستانتي! لكني أيضًا لا أقبل! لم أقصد اتهام المسيحية! وكيف أتهمها وأنا منها! وما أعنيه أنها في الممارسات تشبه الديانات الأرضية، كما أنها في التخبطات تشبه بعض تخبطات الديانات الأرضية. لم أفهم!

من تاريخ الهند

هل ممكن أن نغير الموضوع، ونستغل ما بقي من الطريق بتعريفي بشيء من تاريخ الهند؟

لم يبق الكثير على الوصول، وعمومًا كانت باكستان وبنغلادش والهند دولة واحدة، ثم انفصلت باكستان والهند. لماذا انفصلتا؟ للظلم الذي يرى المسلمون أنهم وقعوا فيه من الهندوس، ثم هم استدرجوا ليخرجوا من الهند وإلا كانت الهند دولة إسلامية. أنت تدافع كثيرًا عن المسلمين مع أنك لست منهم!.. هل لأنك تعمل عندهم أو أنك تخاف منهم؟ هههه، ربما!



كلمات دليلية: