رغبات ومبادئ

رغبات ومبادئ

رغبات ومبادئ..(1)

وعكة صحية

استيقظ جورج في الساعة الثامنة والنصف صباحًا، كان جسده ثقيلًا ومرهقًا، ففي الليل اشتدّت عليه الحمّى فلم يستطع النوم، واضطر لطلب خافض حرارة من الفندق. تحامل على نفسه وقام واغتسل فأحسّ بشيء من النشاط. نزل إلى المطعم وتناول فطوره، وأخذ مُسَكن الحرارة مرة أخرى، فأحس بمزيد من التحسّن والنشاط. صعد إلى غرفته مرة أخرى عند التاسعة وعشر دقائق، فإذا بهاتفه يرنّ، كانت ليفي بصوتها الجميل المتلهف:

أين أنت؟ لقد خفت عليك، اتصلت عليك أكثر من مرة ولم ترد. عذرًا، نزلت لتناول الفطور ونسيت هاتفي في الغرفة. ليس من عادتك التأخر في المواعيد. لم أستطع النوم جيّدًا في الليل، ربما أصبت بوعكة. ليشفيك الرب، هل تريدني أن أوصلك للطبيب؟ لا شكرًا، وعذرًا على تأخري، أنا الآن أحسن وأفضل.

نزل جورج إلى صالة الاستقبال، ورأى ليفي تلبس ملابس ساترة محتشمة، لكنها لا تخفي جمالها الأخاذ، فصافحها ورحب بها.. فقالت له بلهفة:

أنا مصرة على أن تذهب للطبيب، لا يصح أن نسكت على هذا الوضع. شكرًا ليفي، أنا الآن أحسن ولو ذهبنا لزيارة الأماكن المقدسة أكون لك شاكرا. كما تريد، المهم أن تكون مرتاحًا.. سنزور اليوم مكانين أو ثلاثة، فما رأيك؟ أقترح أن نبدأ بالمهم، ولو أنهينا اثنين يكفي، يهمني أكثر أن أجلس وأتناقش معك، لا مجرد الزيارة. وأنا المهم عندي هذا أيضًا، سنتجه أولًا لحائط المبكى وجبل يوريا، ثم سنزور قبر الملك داوود في جبل صهيون، وإن اتسع الوقت فسنزور المقبرة القديمة في جبل الزيتون. مناسب، وآمل أن ننهي الجولة مبكرًا قبل أن أصاب بالإعياء. كيف كان حبيب معك؟ اختيار موفق جدًّا منك، يبدو أنك تفهمينني جيدًا.

لمعت عيناها وأشرق ثغرها وابتسم محياها...

ممم.. إلى حد ما، حبيب مثقف وواع ٍومنفتح. صدقت، وقد استفدت منه كثيرًا. هو يقول نفس الشيء عنك.

جورج باستغراب:

كيف ومتى؟ اتصل علي بالأمس بعد ما تركك في الفندق مباشرة، وقال لي أنه استفاد منك كثيرًا.. لقد أثنى عليك ثناء لم أسمعه منه على أحد. هذا من كرمه، وإلا فأنا طوال الوقت في نقاش وأخذ ورد معه. إن كان مثل نقاشك معي فما أحلاه من نقاش!

شعر جورج بنشوة وهو يسمع كلماتها الحلوة بصوتها الناعم.. بجسدها الفاتن.. بروحها الجميلة.

هههه، يختلف قليلًا؛ فأنت رقيقة جميلة وهو ليس كذلك، لكن أشكرك على اختيارك له، كما أشكرك على حرصك وتعبك معي، المهم أن أهداف السفر الأساسية تتم، وهي توقيع العقد والتعرف على طريق السعادة. شكرًا لكَ أنت، أما زلت تذكر العقد؟ لقد نسيته كليًّا، بالمناسبة جلستك مع بنيامين يبدو أنها خلطت أوراق عقله. كيف؟ لا أدري لكن بعد خروجك طلبني، وقال: هذا من أغرب من قابلتهم في حياتي، فسألته كيف؟ فقال: إما أنه مجنون أو قديس. هههه، لا خيار ثالث! لا أود أن أكون مجنونًا، وللأسف لا يمكن أن أكون قديسًا وأنا أدفع رشوة له. لا أدري لماذا أثر ما قلته له فيه، فقد كرر لي أننا نخطئ عندما نحسب أن الدنيا مجرد مال، وهذه أول مرة في حياتي أسمع هذا من بنيامين. بصراحة.. رغم عدم راحتي له إلا أن كلماته أثرت فيَّ أيضًا جدًّا، فهل صحيح أن متع الأجساد هي عذابات الروح؟ ألا يوجد طريقة تجتمع فيها المتع وتزول فيها الآلام؟ كم أتمنى أن أجد هذه الطريقة. إذن أنت كما أخبرني حبيب تبحثين عن طريق السعادة؟ كلمة جميلة جدًّا، لكن ما هو طريق السعادة عندك؟ هو الطريق الذي كنت قبل قليل تتمنين أن تجديه، وأنا أبحث عنه منذ فترة. وأنا أبحث عنه منذ فترة أيضًا.. ثم ابتسمت ونظرت في عينيه، وقالت: أي تقارب هذا بين روحينا؟! أخبرني بذلك حبيب، ولماذا لم تعتنقي الكاثوليكية؟ كانت الفكرة أن أهرب من تعقيد اليهودية وانحرافاتها، وليس لأبدل العقد بعقد أخرى والتحريف بتحريف آخر، وإلا فاليهودية أعرق وأقدس. بصراحة كما عودتيني، هل هذا هو السبب فحسب، أم أن هناك أسبابًا أخرى؟! في الحقيقة..! تغيير الأديان ليس عملية سهلة أبدًا، كيف تتصور أن يتعامل من يغير دينٍ مع من حوله، كيف سأتعامل مع بنيامين؟ هل تتوقع أن أبقى في وظيفتي يومًا واحدًا؟ إذن أنت خائفة منه؟ قلت لك أني لم أقتنع أصلًا، وبصراحة أخاف من تغيير ديني... الحرية لها ضريبة غالية.. غالية جدًّا! لكن لا بد أن ندفع هذه الضريبة؛ لننال حريتنا، فلا شيء يعدل الحرية. لازلت أبحث عن القرار الصحيح، أو طريق السعادة، وعند اقتناعي بذلك ربما أتخذ القرار بشجاعة، وربما أجبن عن ذلك، لا أدري.. لا أدري! هل تخافين من بنيامين؟ أكيد!.. وهل تعتقد أن القرار الشجاع الصحيح، أو بتعبيرك طريق السعادة هو ما يوصل للمسيحية؟ لديك قدرة غير عادية على قلب الطاولة على محاورك، لا أدري لم؟ ألم أقل لك بأن روحينا تحلق معًا، فربما امتزجتا في لحظة ما. ها أنت أصبحت فيلسوفة أيتها الجميلة، كيف تمتزج الأرواح؟ هههه، لا أعرف، كل الذي أعرفه أنه كما تمتزج الأبدان تمتزج الأرواح، وأن روحي تحلق مع روحك. من الأفضل أن تحلق الأرواح بسعادة بدلا من أن تحلق بحيرة وشك.

حائط المبكى

صدقت، ولكن دعنا من هذا.. بقيت دقائق على وصولنا لحائط المبكى، أو كما يسميه المسلمون حائط البراق، وهو الأثر الأخير الباقي من هيكل سليمان. في رأي أغلبية الحاخامين اليهود،كان الدخول إلى الحرم القدسي محظورا على اليهود منذ خراب الهيكل؛ لذلك فالحائط هو أقرب نقطة من مكان الهيكل التي يمكن لليهود الصلاة فيها حسب الشريعة اليهودية العصرية. وأطلق عليه اسم «حائط المبكى» نسبة إلى طقوس الحداد التي تؤدى عنده وقبالته. منذ متى؟ قبل القرن السادس عشر كان اليهود يؤدون صلواتهم وطقوس الحداد على خراب هيكل (النبي) سليمان في أماكن مختلفة حول الحرم القدسي، ثم أصبحوا يحتشدون سنويا أمام حجر قريب من السور المحدد للحرم القدسي تم تسميته حائط المبكى ويسميه المسلمون حائط البراق. وما حائط البراق إذن؟ هو مقدس عند المسلمين أيضًا، فهم يقولون إن نبيهم أسري به من مكة على دابة اسمها البراق وأوقفها عند هذا الحائط. وهل تتركونهم يتعبدون عنده؟ تركنا لهم الحرم القدسي كله وسينافسوننا في حائطنا! ثم أيضًا المسلمون لا يتعبدون عند الآثار ولا تهمهم النصب والتماثيل. كان حبيب يسخر مني ويقول إنكم البروتستانت كالمسلمين لا تحبون التماثيل والصور. هذا هو ما بقي لنا من معبدنا المهدوم، وسنخرج للعالم أجمع الآثار التي تثبت ذلك. كل هذه السنين ولم تجدوا الآثار ولا زلت تأملين أن تجدوها؟ ههه، إن لم نجدها سنصنعها! إذن أنت لست مقتنعة بذلك؟ لست مقتنعة ولا غير مقتنعة، حالة من الشك، بعض الدراسات تقول أول مرة صلي فيها عند الحائط كانت في عهد الدولة العثمانية، وليس كما قلت لك من أنه من قبل القرن السادس عشر، والمسلمون يقولون إنها كذبة مكشوفة، المهم أنه أهم مكان مقدس عندنا، ثم التفتت لجورج وقالت: من الصعب ألا تمرِّن وتنعش وتسعِد روحك، هل تريدنا أن نبقى بلا عبادة؟ تبدين اليوم أغرب منك بالأمس. اليوم يوم عبادة ونحن نتجه للمبكى، ويجب أن ننزل الآن ونكمل الطريق مشيًا. أتمنى أن يكون المشي في هذه الشمس قليلًا؛ فآثار الإعياء بدأت تظهر عليّ. آمل ألا يظهر عليك أنك لست يهوديًا. كيف؟ خذ البس هذه القبعة. لا بأس، هههه، ولكن لا تصوريني وأنا ألبسها وإلا ستغضب كاترينا. تبدو محبًّا لكاترينا كثيرًا! نعم، فهي متدينة مثقفة وقلبها صاف أبيض مثلك. أتمنى أن أجد مثلك من يُقدر الدين والثقافة والفكر.. سننعطف يمينًا، ثم يمينًا أخرى، وسنجد الحائط والناس يبكون. لبست القبعة لكني لا أحسن تمثيل البكاء. ليس مهمًّا، كثيرون مثلك لا يحسنون التمثيل، وستجد كثيرين آخرين يبكون أو يحسنون التمثيل والبكاء.. يمكنك أن تكمل؛ فالنساء ممنوعات من الدخول. كيف؟ لن ادخل إن لم تدخلي. تفضل أنا أنتظرك، هل تريدني أن أدخل فأطرد كالكلاب، ادخل لوحدك لو سمحت.

مشى جورج بقية الطريق وحده، وقد بدأ يشعر بالإعياء، حتى وصل الحائط.. كان عدد اليهود الباكين كثيرا، وهناك آخرون كثيرون ربما لم يحسنوا البكاء.. وقف بجوارهم يراقبهم، لكنه شعر بالضيق، ورغب في الخروج سريعًا؛ خاصة وأن الإعياء قد زاد عليه وارتفعت حرارته. طالع حوله لم ير أي امرأة، فاستاء وكره المكوث، قرر أن يعود، لكن خطواته كانت أثقل وآثار الإعياء بادية عليه، تحامل على نفسه حتى وصل لليفي، فوجدها مثله جالسة بانتظاره في الطريق..

عدت سريعًا! أنا متعب جدًّا، هل ممكن أن نذهب للسيارة بسرعة؟ حسنا، كما تريد. أو هل يمكنك أن تأتي بالسيارة إلى هنا؟ تبدو متعبًا جدًّا.. بكل أسف لا يمكنني أن آتي بالسيارة، بإمكانك أن تتكئ عليّ، هيا..

كان الإعياء واضحًا على جورج، فوضعت ليفي يد جورج حول رقبتها ليتكئ على كتفها، حاول أن يرفع يده ويستقيم في مشيته لكن الإعياء أثقله، مال برأسه على كتفها، حركة الهواء حركت خصلات من شعرها على وجهه، رائحة جسدها في أنفه، شعرها تحت يده، وأحيانًا يلتصق خده بخدها...

آسف، أتعبتك سابقًا وأتعبك مرة أخرى الآن.. يبدو أنني أتدلل. لا عليك.. المهم أن نصل إلى السيارة بسرعة.. هنا مستشفى قريب سنتجه إليه، وبإمكانك بعد أن نطمئن عليك أن تكمل دلالك.


رغبات ومبادئ..(2)

في طوارئ المستشفى

أسرعت ليفي بجورج إلى طوارئ المستشفى، فأعطوا جورج إبرة مسكّنة دخل على إثرها في نوم مفاجئ.. فمضت ليفي إلى الطبيب لتسأل عن حالته..

ما به؟ لا تجزعي.. أعطيته منومّا ليرتاح أكثر، وستكشف التحاليل ما به خلال ساعة من الآن.. ثم ابتسم وقال: تبدين خائفة كثيرًا عليه، هل هو زوجك أم عشيقك؟ صديقي فحسب. على كل الأحوال، خلال ساعة ستكون النتائج قد ظهرت، وأظنه سيستيقظ قبل ذلك.

جلست ليفي إلى جوار جورج، وراحت تتأمل ملامحه النائمة، وتمسح على جبهته وتمرر أصابعها بين خصلات شعره، كانت تشعر بعاطفة قوية تتملكها تجاهه.. وبعد فترة فتح جورج عينيه، ويد ليفي تمسح على شعره..

أين أنا؟ حمدًا للرب على قيامك، نحن في المستشفى، وأنت بخير. أين الطبيب؟ سيأتي خلال دقائق، ومعه نتائج التحليل، ارتح لا تجهد نفسك جورج.

أمسك جورج بيدها التي لا زالت تمسح على وجهه وشعره، ثم مسح بيده على يدها برفق..

أنا شاكر لك جدًّا ليفي،لم أكن أتوقع أن أتعبك هكذا.. لا تقل هذا، أنا في خدمتك جورج.

مرت دقائق معدودة لم يتكلما فيها غير أن لغة النظرات ولغة اللمسات كانت أبلغ من لغة المنطق.. حتى أقبل الطبيب ليرى جورج..

استيقظت يا جورج؟ لقد كانت عشيقتك.. آسف أعني صديقتك في قلق شديد عليك. ما الخبر يا دكتور؟ من النتائج الأولية يبدو أنه التهاب فيروسي حاد، وبقية النتائج ستخرج غدًا. ومتى يمكن أن أخرج؟ بعد ساعة أو في الغد كما تريد، متى ما شعرت بالارتياح تمامًا، وعند خروجك ستسلمك الممرضة أدويتك، أستأذنكما الآن.. جورج لو سمحت اجلس إلى الغد هنا؛ فهذا أضمن على صحتك.

شدّ جورج على يد ليفي، ونظر إليها بامتنان..

شكرًا ليفي، آمل أن أذهب إلى الفندق، وأعتذر عن عدم إكمال الجولة..

وسحب يدها ووضعها على صدره، ثم رفعها وقبلها..

أعتذر لكِ.

ارتبكت ليفي كثيرًا، وبدا على وجهها الخجل رغم أنها شعرت بكثير من السعادة والنشوة، ابتسمت له.. ورجته ألا يتعجل؛ فاليوم سبت وما زال النهار ولم تغرب الشمس بعد..

تعتذر عن ماذا؟ لا تعتذر، المهم أن تكون بصحة جيدة.

أكملت ليفي إجراءات الخروج لجورج، واستلمت التحاليل الجاهزة والأدوية، وأخذت موعدًا في الغد الساعة العاشرة صباحًا.

هل لا بد أن يحضر هو، أم آتي أنا وآخذ النتائج؟ إن عاد إليه التعب فاحضرا معًا، وإلا فيكفيك أن تأتي غدًا لتأخذي نتيجة التحليل الباقي. سآتي غدًا لآخذ النتيجة إذن، هل سيخرج بسيارة إسعاف أو بسيارتي؟ بسيارتك، فهو سيخرج مشيًا كما سترين.. ثم التفت لجورج، وقال له: تفضل يمكنك المشي. إذن انتظر سأقرب السيارة عند الباب.

عادت ليفي، وأمسكت بيد جورج إلى السيارة، وفتحت له الباب، وظلت بجواره لتعاونه.. فنظر في عينيها الزرقاوتين وكلهما عطف وود..

شكرًا لك ليفي، لا أعرف كيف أشكرك..

من مظاهر الضعف البشري

وبحركة ـ شعر أنها لا إرادية ـ التفت إليها، واقترب بجسده منها، وعانقها وقبلها قبلة طويلة؛ فارتبكت ارتباكًا شديدًا رغم ابتسامة ملئت محياها حاولت أن تخفيها..

عذرًا هذا يوم للعبادة فقط، لا تحتاج أن تشكرني؛ فأنا أقوم بما يمليه ضميري. أنا آسف ربما أكون أحرجتك، لم أكن أعرف كيف أعبر لك عن شكري وامتناني فقبلتك. ليس هذا وقته.. بإمكانك أن ترتاح الآن.. ثم ابتسمت ابتسامة ساخرة: قبلني كاخ كثيرًا ولم يعتذر! كم كنت أكرهه. أعتذر؛ فأنا لم أقصد الإساءة إليك، ولا أعرف كيف فعلت ذلك، ربما كانت لحظة ضعف مني، بسبب المرض، أو ربما كما قال حبيب: اختلط الإعجاب بالروح الجميلة مع الإعجاب بالجسد الجميل. أو ربما يكون تمازج الأرواح الذي كنا نتحدث عنه، دع هذا الموضوع كيف تشعر الآن؟ أشعر بالخجل منك ومن نفسي، فقد رأيت ضعفي أمام شهوتي، صدقيني لم أكن أقصد إحراجك وإنما تعبير عما في قلبي. أغلق الموضوع لو سمحت، قلت لك قبلني بل اغتصبني كاخ أكثر من مرة ولم يعتذر، بل ـ زيادة في المهانة ـ كنت أشعر أحيانًا أني أستمتع بالجنس مع القذر كاخ، تخيل أستمتع بإجباري على التنازل عن مبادئي، ربما كان بنيامين صادقًا في أننا نمتع أجسادنا بما يظلم ويشقي أرواحنا. أو ربما لم نجد الطريق الذي تستقيم فيه أرواحنا مع أبداننا، وتُسعِد أرواحنا أجسادنا كما تُسعِد أجسادنا أرواحنا. ربما مشروعك في الطريق للسعادة يوصلك لذلك، فلا تنس أن تخبرني به إذا وصلت له وإلا لن أسامحك ولن أعذرك. متى أنهي هذا الطريق، يبدو أن كل من أقابله ينتظر النتيجة، أكرر أسفي وامتناني لك ليفي. سنصل الفندق بعد دقائق، وأريدك أن ترتاح تمامًا اليوم في غرفتك، وسأرتب أن يأتي لك العشاء في غرفتك؛ فقد تجاوزنا وجبة الغداء، وسيأتيك الفطور صباحًا.. وأنا سأذهب للمستشفى؛ لإحضار نتيجة التحليل، ثم آتي إليك، متى تسافر؟ لقد ألجمت لساني، شكرًا لك، سفري الساعة السادسة مساءً.

وصلا الفندق، وصعدت معه ليفي للغرفة حتى مدد على سريره..

أود أن أجلس معك، لكني أخاف أن أتعبك بوجودي ونقاشنا ولذا سأنصرف. لا تعلمين مقدار سعادتي بالنقاش معك، لكن انصرفي لترتاحي فقد أتعبتك كثيرًا. قد غربت الشمس، وأود أن أفعل شيئًا لا أفهم لماذا، وبإمكانك أن تفسره كما تريد. لم أفهم!

اقتربت ليفي من جورج وعانقته وقبلته قبلة طويلة.. شعر فيها جورج أنه كالنبتة الصحراوية عندما تسقى بالماء، ورغم تعبه وإرهاقه إلا أنه تمنى لو كان العناق أطول والقرب أكثر..

انتهى السبت لدينا، وسأترك لك تفسير ما فعلت؛ فأنا لا أعرف لماذا فعلت ذلك، إلى اللقاء.

كان تصرف ليفي مفاجئًا جدًّا لجورج، لم يفهم تفسير تصرفها، كما لم يفهم تفسير تصرفه هو عندما قبلها.. ترى هل نحن نتصرف بلا اختيار؟ أم أن ضعف المرض هو السبب؟ أم أن امتزاج الأرواح يمكن أن يفسر ذلك؟ أم هي الشهوة الجنسية والخطيئة؟ أم هو الخلط بين الإعجاب بالروح والجسد كما يقول حبيب؟.. أيًا كان السبب لكنه يبين الضعف البشري.. وربما يبين حاجتنا لتكفير اليسوع لخطايانا، ثم شرد ذهنه يفكر في ليفي ويتذكر وقفتها معه وخوفها عليه، وبينما هو كذلك رن هاتفه فإذا على الطرف الآخر كاترينا..

حبيبي كيف صحتك الآن؟ بخير والحمد لله خرجت من المستشفى وأنا بخير، من أخبرك بمرضي؟ مرضك؟ أي مرض؟ كل ما أعرفه ما أخبرني به توم في أثناء الحفل الكنسي بالأمس من أنك أرسلت له أنك متعب. توم مرة أخرى؟ حبيبي هل ما زلت تشك في؟ أبدًا، أنا بخير وغدًا عودتي، تقلع الطائرة في الساعة السادسة. سننتظرك بسيارة إسعاف. لا داعي لذلك أنا بخير. لا بأس حتى نطمئن عليك.. ولا أريد أن أطيل عليك حاول أن ترتاح الآن، أستودعك الرب. وأستودعك الرب حبيبتي.

أنهى جورج المكالمة وهو يتأمل في الأقدار التي تجعل كاترينا تتصل عليه بعد قبلة ليفي، لتذكره بتقبيل توم لها، وغضبه من ذلك، وتساءل: هل نحن ريشة في مهب الريح؟ أم أن الأقدار تسوقه لشيء لا يعلمه؟ هل متع الجسد تعني شقاء الروح والمبادئ! ألا يمكن الجمع بينهما! يبدو أن الأيام القادمة حبلى بأحداث لا يمكن التخمين بها. في هذه الأثناء وصل العامل بالعشاء إلى غرفته، ودخل النادل مبتسمًا، وألقى التحية على جورج..

يبدو أن المرأة تحبك ومهتمة بك كثيرًا، فقد تأكدت بنفسها من جودة الأكل، وأعطتنا تعليمات لتذكيرك بأدويتك، ولم تنصرف حتى تأكدت أننا صعدنا بالأكل. حسنًا، شكرًا لكم.

تناول العشاء سريعًا.. ثم ارتمى على فراشه يفكر في هذا اليوم، كم كان يتمنى أن يرى بريده، لكنه رأى أن يؤجل ذلك للغد.

رغبات ومبادئ..(3)

اهتمام ورعاية من نوع خاص

لم يستيقظ جورج إلا الساعة التاسعة صباحًا، عندما طرق عليه النادل باب الغرفة قادمًا بالفطور..

هذه تعليمات عشيقتك؛ فقد اتصلت قبل نصف ساعة لتتأكد أننا جهزنا الفطور،كما اتصلت في الساعة الثانية ليلًا؛ لتأكد لنا أن نتصل عليك لتأخذ دواءك.. أنت محظوظ من يجد فاتنة جميلة محبة، بل وعاشقة ولهانة مثل هذه؟

شكره جورج، ولم يجب عليه وهو يردد: «فاتنة عاشقة ولهانة»، ثم تناول إفطاره، وفتح جهاز الحاسب؛ ليرى البريد الإلكتروني، والرد على ما استطاع منها، ثم كتب رسالة لتوم وآدم أخبرهما بمرضه، وأنه سيعود اليوم إلى لندن، وسألهما: هل يعرفان شيئًا عن أفراح الروح، أم أن الروح ليس لها إلا الشقاء وأن المتع كلها للبدن وللبدن فقط؟ هل يمكن أن نسعدهما، أم لا بد لكي تسعد أرواحنا أن تشقى عقولنا وأجسادنا؟ ذهبت ليفي إلى المستشفى؛ لاستلام نتيجة التحليل، فأخبرها الطبيب بأن الفيروس الذي أصاب جورج فيروس نادر ولأول مرة علميًّا يصيب الدماغ؛ مما يعني أنهم أمام حالة جديدة. واقترح الطبيب أن يعود للمستشفى لمدةٍ من أسبوع إلى عشرة أيام، فلا يمكن التنبؤ بما سيؤول إليه حال جورج؛ إذ إن الفيروس يمكن أن ينشط في أي وقت، وبالتالي قد تحدث تغيرات مفاجأة في حالة جورج تستدعي وجود الطبيب. بكت ليفي كثيرًا خوفًا على جورج، ولم تعرف ما تفعل؛ فاتصلت بحبيب الذي جاءها إلى المستشفى،كانت تسأل نفسها وتسأل حبيب: لما كل هذا التعلق بجورج؟ هل هو تعلق شهواني برجل رفض أن يمارس الجنس معها فتثأر لأنوثتها؟ أو تعلق روحاني بفكره وخلقه وثقافته؟ أو للتشاكل والتشابه في الانفتاح والبحث عن طريق السعادة؟ كانت تسأل حبيب وهي تنتحب، وهو يحاول أن يهدئها، ثم مضيا معًا إلى جورج في الفندق. دق هاتف الغرفة على جورج وهو لا يزال يقرأ في رسائل البريد الإلكتروني التي وصلته، فرد فإذا ليفي تقول له:

هل تسمح لنا أن نصعد لغرفتك؟ تفضلي أهلًا بك.

دخلت ليفي بابتسامة حزينة، ورحبت به وصافحته..

معي ضيف هل تأذن له؟ لا تضعي حواجز بيننا، ضيفك ضيفي، ليتفضل.

دخل حبيب؛ فرحب به جورج كثيرًا، وسعد به..

يبدو أنك مرضت بسببي؛ فقد بدأ المرض معك وأنت معي، وليفي بريئة من هذا. ليفي بريئة من كل عيب؛ فهي أطهر من الطهر. ما هذا الغزل في حضوري! هههه، نسيت أنك الحارس لنا.

بابتسامة ساحرة خجولة، وهي تنظر لجورج..

لم أفهم ماذا تعني أن حبيبا حارسا، حارس لنا من ماذا؟ لا عليك.. فجورج يحاول أن يفسد بيننا فقط.. ثم التفت لجورج: وقال له كيف صحتك الآن؟ بأفضل حال كما ترى، أنا الآن أحسن بكثير.. تعبت في الأمس وأتعبت ليفي معي. لم تتعبني أبدًا، ولم أكن أعرف ماذا أفعل؟ أنا دائما أرتبك في المواقف الحرجة، آمل ألا أكون أتعبتك، كان يفترض أن نلغي الزيارة لما أخبرتني بإعيائك، لكنه ربما كان سوء فهمي هو السبب! أنت لم تخطئي أبدًا، وما حدث لي كان مفاجئًا. اقترح الطبيب أن تجلس لديهم يومين أو ثلاثة، فماذا ترى؟ إقلاع الطائرة الساعة السادسة؛ أي يجب أن أخرج للمطار بعد ساعتين ونصف من الآن وأنتِ تقولين لي يومين أو ثلاثة! جورج أرجوك يومين أو ثلاثة فقط ونطمئن عليك أكثر. أنا بخير، ما أخبار تقرير الطبيب الأخير؟ أعطه إياه يا ليفي، تقرير جيد، وإنما هو يريدك ليطمئن أكثر.

أخذ جورج التقرير من ليفي وهو ينظر في عينيها، ووعدها بأنه سيعتني بنفسه وسيذهب للمستشفى فور وصوله إلى لندن..

يجب أن تذهب للطبيب أول ما تصل لندن وطمأنا عليك جورج. كاترينا زوجتي علمت بمرضي وقالت إنها ستنتظرني بسيارة الإسعاف في المطار، توسلت إليها ألا تفعل فأصرت، هي عنيدة مثلك يا ليفي. جيد ما فعلت كاترينا، حتى نطمئن عليك، أمامنا ساعتان تقريبًا ينبغي أن تتناول غداءك، ثم تجهز حقائبك للسفر. الغداء بعد ساعة من الآن معًا في مطعم الفندق، فأنا أدعوكما ولا ترداني، ولا أحتاج لأكثر من ربع ساعة بعد الغداء لأستحم وأجهز حقائبي. موافقين على أن يكون في غرفتك وليس في مطعم الفندق؛ كي لا نتعبك. أوه يا ليفي.. أود أن أتحرك قليلًا، ولا يتعبني أن يكون في المطعم أبدًا.

حبيب، وهو يحاول أن يقطع الغزل الخفي بينهما..

حتى نغتنم ما بقي من وقتنا، ما أخبار طريق السعادة؟ هذه ثاني مرة أسافر فيها يا حبيب من أجل البحث عن طريق السعادة، غير اللقاءات والحوارات والاجتماعات، لقد أخذ مني هذا الموضوع وقتًا وجهدًا طويلًا، وآمل أن تكلل جهودي بالنجاح. ليفي: نجاحك نجاح لنا جميعًا، وننتظر النتائج التي ستصل إليها. حبيب: وأين كانت المرة الأولى التي سافرت فيها؟ أقول لكم الترتيب كما تقوله كاترينا: بلاد العجائب، ثم بلاد الملاحم، ثم بلاد الكنائس. حبيب: بلاد الأعاجيب عرفناها الهند، وبلاد الملاحم عرفناها أنت فيها، فما هي بلاد الكنائس؟ روما والفاتيكان، والمفترض أن تكون السفر القادم. حبيب: القدس يمكن توقع الفائدة منها؛ فهي مهد الأديان ومرجعها وصراعاتها، والفاتيكان يمكن تصور معنى زيارتك لها؛ إذ إنها من أهم مناطق النصارى بمختلف أديانهم، لكن الهند لماذا كانت البداية؟ كان السؤال الأول: هل الأديان السماوية أولى أو الأديان الأرضية؟ فذهبت للهند من أجل ذلك، ثم كان السؤال.. ليفي: أعتذر عن المقاطعة كان يفترض أن يكون السؤال الأول: هل الدين أو الإلحاد أفضل؟ صدقت، ولكني كنت ولا زلت أرى أن الإلحاد مرض نفسي يعقبه فلسفة تبريرية، وإلا فهم في داخلهم يؤمنون بوجود إله، ولا تجد أكثر مرضًا وقلقًا وسوءًا من الملاحدة.

ابتسم حبيب وهو ينظر لليفي، وقال:

صدقت لكن كان يفترض أن يبحث هذا بتجرد وعلمية. بحثته، لقد بحثته حقيقة! لكن أين تريديني أن أسافر لأرى ذلك؟ حبيب: هههه، سافر في داخل أي ملحد، وستتأكد مما تقول!! لا أدري كيف يتحملون أنفسهم!! ليفي: ولهذا هم أكثر الناس اكتئابًا وانتحارًا. دعني أكمل، كان السؤال الثاني بعد أن فرغنا من أن الأديان الأرضية خرافة ودجل، أيّ الأديان السماوية أفضل؟ فكان السفر إلى البلاد المقدسة لرؤية اليهودية عن قرب وعن كثب.. ثم التفت إلى ليفي، وقال: وسعدت فيها بصحبتك فيها. إذن حواراتنا قبل أمس عن النصرانية وطوائفها وحروبها استعجال قبل السفر الثالث؟ نعم، لكنه استعجال في محله، وسيكون السفر الثالث للفاتيكان؛ للتعرف على الدين النصراني. بقي أن تتعرف على دين الإسلام. بدا واضحًا الغضب على وجه ليفي، وقالت: دين البرابرة، اذهب إلى مكة لتتعرف عليه، لن يدخلوك مهما فعلت. هههه، هدئي من غضبك، حقيقة كنت أتمنى أن أقابل مسلمين هنا في القدس، فلا تنسي أن غالب السكان هنا مسلمون، لكن لم يتيسر لقصر الرحلة، ثم بسبب المرض، وعمومًا قد لا أحتاج إلى سفرة لبلاد المسلمين.

نظر حبيب في عيني ليفي...

أما منع غير المسلم من دخول مكة، فهو كمنع اليهود المسلمين من الذهاب إلى حائط المبكى، أو كمنع النساء من دخول حائط المبكى، أو كمنع الشباب من الصلاة في المسجد الأقصى يوم الجمعة، أو... جورج: هون عليك ألم أقل لك أنك مسلم متنكر بالكاثوليكية! ليفي: هههه، هو دائمًا هكذا، والآن معي شخص من نفس دينك ضدك يا دكتور. لا تستنجدي بجورج ضدي؛ فهو مسافر اليوم، وسنستمر نحن في نقاشاتنا، لكن من العدل والإنصاف أنه ينبغي كما بحثت يا جورج في اليهودية والنصرانية أن تبحث في الإسلام. ألم أطلب منك يا جورج أن تبحث في الإلحاد؟ هل الإلحاد لديكما أفضل من الإسلام؟ هههه، ربما. الوقت تأخر، هل تريد أن نسبقك للمطعم أو ننزل معا؟ لا بد أن نساعده في النزول فهو متعب. شكرًا ليفي، اسبقاني وسألحقكما سريعًا، فقط سأستخدم الحمام، تفضلا.

نزل حبيب وليفي إلى المطعم، واختارا طاولة مناسبة، وجلسا بانتظار جورج، وعندها بادر حبيب..

أخشى أن يكون إعجابك به أكثر من اللازم. لماذا؟ عذرًا على التدخل لكن نظراتكما لبعض مريبة، وكلامكما كأنما أنتما عشيقان. لا أدري لماذا وصلنا لهذا! مع أنه كما أخبرتك من البداية رفض أي اتصال جنسي، وقال لي أنه يحب زوجته ويعتبر ذلك خيانة. قلت لك لا تخلطي بين الإعجاب بالروح والأخلاق، وبين الإعجاب الشهواني الغريزي الجنسي. بالأمس حدث شيء عجيب جدًّا، حملته بعد إعيائه وسقوطه، ثم قبلني ولأول مرة، ولما وضعته على سريره في الغرفة رددتها له وقبلته. القبل ـ للأسف ـ طبيعية جدًّا في مجتمعاتكما كليكما، لكن ما ليس بطبيعي أن تتنازلا عن مبادئكما. لا أعرف تفسيرًا لما حدث، وأظنه كما تقول، أو هو الضعف البشري.

في هذا الوقت وصل جورج وجلس على الطاولة معهما..

المطعم بوفيه مفتوح؛ هل تحبان أن نقوم ونأخذ غداءنا؟ تفضلا.

بعدما اجتمعا على الطاولة مرة أخرى.. اقترح حبيب على جورج وليفي مواصلة الحوار، فهي فرصة ثمينة يجتمع فيها الثلاثة مع بعضهم..

نكمل حيثما وصلنا، أنا أرى أهمية أن تسافر مرة خاصة للمسلمين. رغم أني دائمًا أختلف معه، إلا أني أوافقه الآن؛ لأنه دافع عن الإلحاد كما دافع عن الإسلام. هههه،لم ولن أدافع عن الإلحاد أو الإسلام، أنا أتكلم عن منهجية علمية في الوصول للحقيقة. يرافق كل مرة أسافر فيها حوارات طويلة وكثيرة تشبه حواراتنا، كما يرافقها قراءات موسعة، وتفكير عميق، ومشاورات بعد رجوعي، إلا أن هذه المرة كمية المعلومات أكثر من وقت التأمل، فلعلي أتأمل بعد عودتي خاصة وأنه سفر ثري جدًّا.

معادلة الربح والخسارة

ليفي وهي تنظر في عيني جورج بدلال...

هل من ممكن أن أسأل سؤالًا، وآمل ألا يكون محرجًا؟ تفضلي. لو اقتنعت أن اليهودية أو الكاثوليكية أو الأرثوذكسية أو حتى الإسلام أو حتى البروتستانتية هي طريق السعادة، هل ستنتقل له مباشرة، أم ستبدأ في حسابات الربح والخسارة؟ أعتقد أن كل حسابات الربح والخسارة تنتهي إذا عرفت طريق السعادة؛ فهو ربح خالص، هل هناك أسعد وأربح من هذا الطريق... المهم أن أجده.

نظر حبيب إلى جورج بحزم، وقال له:

ستجده، حتمًا ستجده، لكني أشك فيما تقول.. تشك في ماذا؟ أشك في سهولة ذلك، وعدم وجود حسابات للربح أو الخسارة، بعض القرارات من الصعوبة بمكان..!! كيف؟ دعني أقرب لك فكرتي، كل من لديهم مرض سكري يعرفون أن تعاطي السكر بالنسبة لهم مضر لكنهم يتعاطون! وكل من لديه سمنة يعرف أن الأكل الزائد غير الصحي مضر لكنهم يأكلونه. وما علاقة ذلك؟ تغيير الدين أصعب بكثير من تغيير عادة أكل قطعًا، بل هي تغيير لمعنى الحياة وسببها ومحركها، ثم التفت إلى ليفي وقال: أعتقد أن ليفي تفهم هذا جيدًا، وعلى كل حال ستجد الطريق حتمًا. ولماذا أنت متأكد هكذا؟ ألستما تبحثان عنه ولم تجداه حتى الآن؟ لا يمكن أن تكون بهذا الإصرار ثم لا تجده، ثم يبعد عن كرم الرب ألا يعين من يريد أن يصل إلى الحقيقة. ذكرتني بعجوز سعيد قابلته كان يقول نفس الشيء. وماذا قال العجوز؟ ربما تستغربان ما أقول، كنت ذاهبا للانتحار، فقابلته وكان يبدو عليه السعادة، فسألته هل أنت سعيد؟ فقال نعم، فسألته كيف أصل إلى السعادة؟ عمومًا هو أول من قال لي كلمة “طريق السعادة”. وبم أجابك؟ لم يجبني، ولكنه قال لي: إن كان لديك إصرار وعزيمة فستصل. ألم تتواصل معه بعد ذلك؟ للأسف لم آخذ رقمه أو عنوانه.. هو الذي أخذ رقمي وعنواني، ولكنه لم يتصل علي. عذرًا، الوقت معك يا جورج يمضي بسرعة أعتقد أنك تحتاج أن تنهي غداءك، وتجهز حقائبك بسرعة. لن أتأخر.. ربع ساعة وأكون عندكما.. ثم صعد الغرفة. أنا معجب بشجاعة جورج وبساطته. وأنا كذلك. بخصوصي أنا فأعجب كما أشاء؛ فأنا رجل، أما أنت فانتبهي لنفسك. أنتم العرب تفرقون بين الرجل والمرأة! العرب أم اليهود؟ أظن أننا قتلنا الموضوع نقاشًا فيما بيننا، لكن يبقى بعض الفروقات لا تستطيعين أن تلغيها. مثل ماذا؟ هههه، مثل كوني لست جميلًا مثلك، ولستُ امرأة، ولستِ رجلا.. هل تريدين أن تغيري طبيعة الأشياء؟ يبقى الأكل شيئا مختلفا عن الشرب مهما فعلنا، ويبقى أن لكل واحد دوره المختلف، وستبقين فتاة جميلة محاورة وأنا رجل محاور. أما جعل النساء كلاب أو قاذورات أو نجسات.. فهذا لا يصدر من شخص أو دين يحترم معتنقيه. أفهم ما تعنيه جيدا، وأرجو عدم اللمز. عذرًا، لكن المهم أن يبقى إعجابك بفكره وإصراره وأخلاقه وروحه، لا بجسده، وقد سبق وقلت له ذلك، وهذا معنى أني الحارس لكما. آها.. فهمت معنى الحارس.. سأنتبه لنفسي، فيكفي ما حصل بالأمس.

نزل جورج سريعًا، وأنهى إجراءات الفندق، ومضى إلى ليفي وحبيب اللذين كانا بانتظاره..

يبدو أن الوقت يداهمنا.. هل نمضي؟ نعم، فأخشى أن يكون هناك ازدحام أو نقاط تفتيش في الطريق. ليحفظك الرب، ستوصلك ليفي، أما أنا فأعتذر لدي موعد، لكن لا تنس أن تخبرنا بتطورات طريق السعادة. ألن تكمل الحراسة؟ هههه، لا يحميكما إلا الرب، ولا يمنع الإنسان شيء مثل مبادئه. سأقرب السيارة عند الباب لتحميل الحقائب. أشكرك جورج لقد أمتعتنا، وأنتظر أخبارك، ليحميك الرب ولا تنس أن تذهب لأقرب مستشفى في لندن بمجرد وصولك، ولا تنس أن تأخذ الحقنة التي لدى ليفي. أي حقنة؟ حقنة يمكنك أخذها لو تعبت في الطيارة، أعطانا إياها الطبيب. شكرًا لكما.


رغبات ومبادئ..(4)

لحظات الوداع

خرج جورج فوجد ليفي تنتظره في السيارة، وقد وضعت الحقائب في السيارة، فركب معها ومضيا إلى المطار..

سنفتقدك يا جورج، لم تجلس معنا إلا أيامًا معدودة، إلا أن لك بصمة واضحة لا تنسى. بل ابتسامتك المشرقة، وثقافتك وفكرك هو الذي لا ينسى، لقد استفدت منك كثيرًا، وأتعبتك كثيرًا، فشكرًا لك.

امتلأت عينا ليفي بالدموع...

سأفتقد نقاشاتك وحواراتك... ونظراتك، وسأعود لدوامة الاضطهاد الذي أعيشه. لا يستحق مثل بنيامين هذه الدموع. ليست المشكلة بنيامين أو اليهود كلهم، المشكلة الحقيقية في داخلي، فأنا لا أعرف طريق السعادة، وكنت أشعر بكثير من السعادة في نقاشاتنا. ستستمر نقاشاتنا معًا، وستستمر نقاشاتك مع حبيب أيضًا.. تدرين! أنت محقة فأنا مذ بدأت أسير في طريق السعادة لم يصبني الهم الذي لم يكن يفارقني. أعتبر هذا وعد منك بأن توافيني بما تتوصل إليه في سيرك في طريق السعادة، وأوافيك أنا بما أصل إليه أنا وحبيب؟ وعد.. ولكن بشرط. وما الشرط؟ أن تمسحي دموعك وتبتسمي، فأود أن أرى وجهك مبتسمًا. اتفقنا، وأعتذر لك عما صدر مني بالأمس عند توديعك، صدقني لا أعرف لماذا فعلت ذلك. أفهمك جيدًا، لأني مثلك لا أعرف لماذا فعلت مثله عند انطلاقنا من حائط المبكى.. هههه، ربما لأني لم أستطع أن أبكي عند حائط المبكى. ولماذا لم تبكِ؟ لماذا أبكي؟ أبكي على هيكل لم يجدوا دليلًا عليه إلى الآن رغم كل ما فعلوه! ألا ترى أنك تتجاوز الخطوط الحمراء في الكلام عن ديني؟ ههههه، آسف، ولأكفر عما فعلت سأتجاوز الخطوط الحمراء في البروتستانتية، فهم مجرمون قتلوا الملايين الكاثوليك في أوربا... هل رضيت وسامحتيني سيدتي؟ سامحتك سيدي.. ولكن بشرط. رددتيها عليّ، وما الشرط؟ أن تطمئنني عليك غدًا، ولو برسالة. اتفقنا.

حان وقت السفر

ها قد وصلنا، هذا هو مطار بن غوريون على اسم أول رئيس وزراء في إسرائيل، وللمعلومية: لقد فاز هذا المطار سابقًا كأفضل مطار في الشرق الأوسط.

أنهى جورج إجراءات السفر وليفي تنتظره، فلما أراد أن يدخل البوابة الداخلية، مدت ليفي يدها بحقنة، وقالت: هذه من الطبيب لو شعرت بحرارة مفاجئة أو تعب خذها؛ فستريحك حتى تصل إلى لندن.

شكرًا لكِ.

امتلأت عينا ليفي بالدموع، ومدت يدها تصافح جورج، ثم قالت: شكرًا لك من كل قلبي على كل لحظة قضيتها معنا، صافحها جورج، ووضع يده الأخرى على يدها، وشعر كأنه سيفقد حبيب له سنين يعرفه، لكنه تسامى عن ما كان يشتهي أن يفعله كما تسامت هي..

استودعك الله ليحفظك اليسوع. استودعك الله ليحفظك الرب.

ثم التفتت إلى الخلف وقلبها يتقطع على فراق جورج.


كلمات دليلية: